نشر موقع “تي آر 724” الإخباري التركي تقريرا عن المستجدات التي تشهدها الأراضي السورية خلال الأسبوع الأخير تحت عنوان “ماذا يحدث في سوريا” قدم فيه تحليلا لأطراف الصراع من وجهة نظره.
وفيما يلي ترجمة هذا التقرير:
استيقظ العالم الأسبوع الماضي على وقع تَـمكُّن منظمة جهادية تُدعى “هيئة تحرير الشام”، المشتبه بارتباطها بتنظيم داعش، من السيطرة على مدينة حلب في فترة وجيزة وبشكل غير متوقع. في البداية، كان من الصعب الحصول على معلومات دقيقة مما صعّب على المحللين تقديم تفسيرات واضحة. لقد انتظر الجميع ما ستؤول إليه الأحداث لتتضح الصورة.
كل تدخل غربي في الشرق الأوسط خلال ثلاثين عامًا مضت جعل المنطقة أكثر اضطرابًا وأقل استقرارًا. كان “مشروع الشرق الأوسط الكبير” يهدف إلى إعادة هيكلة المنطقة بما يخدم أمن إسرائيل. فكما رسم البريطانيون والفرنسيون حدود المنطقة بمسطرة عام 1916 في اتفاقية “سايكس بيكو”، أرادوا هذه المرة إعادة تقسيمها لصالح إسرائيل، مع التركيز على تفتيتها إلى وحدات أصغر إثنيًا وطائفيًا. لتحقيق ذلك، كانت الحاجة ماسة إلى تعزيز الانقسامات الطائفية، خصوصًا بين السنة والشيعة. فقد مثلت السعودية لسنوات طويلة “المحور السني”، حيث موّلت الحركات السلفية الجهادية بأموال النفط. هذه الحركات لم تكتفِ بتشويه سمعة الإسلام، بل أصبحت أدوات بيد القوى العالمية، من أفغانستان إلى العراق، ومن سوريا إلى ليبيا لترجمة مشاريعها إلى أرض الواقع. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت قطر من أبرز ممولي هذه الجماعات، بينما أصبحت تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان مرتبطة بها. أما إيران فقد أُوكل إليها دور محوري في هذا المخطط أيضًا، بصفتها الدولة الشيعية الوحيدة القادرة على تقسيم العالم الإسلامي طائفيًا. استغلت إيران الفراغ الذي أحدثته التدخلات الغربية لتوسيع نفوذها وتبنت طواعية زعزعة استقرار المنطقة من منظور طائفي معتمدة على استراتيجية خلق “محور شيعي”.
رغم التحذيرات بأن سقوط صدام حسين سيؤدي إلى تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، إلا أن قوى التحالف الدولي تجاهلت ذلك، بل أرادت حصول هذه النتيجة. كما هو متوقع، وقعت معظم العراق تحت تأثير إيران بعد سقوط صدام، باستثناء المناطق الكردية في الشمال. كان الجنود الإيرانيون يقاتلون في العراق، وكانت ميليشيا الحشد الشعبي بقيادة قاسم سليماني تنظم وتنفذ العمليات كما يحلو لها. واليوم يتزايد التذمر في العراق من التدخل الإيراني في السياسة والأحداث.
بعد اندلاع الأحداث في عام 2011، جاء الدور على تقسيم سوريا وإغراقها في الفوضى أيضًا. للأسف، كان لحكومات حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان دور كبير في تفاقم الكارثة. في البداية، كانت العلاقات بين عائلتي الأسد وأردوغان وطيدة من خلال زيارات متبادلة وعقد مجالس وزارية مشتركة، لكن تغيرت المواقف فجأة، فأصبح الأسد عدوًا بين ليلة وضحاها، وتطايرت في الهواء دعوات للإطاحة به.
رغم تصريحات أردوغان بأنهم سوف يؤدون “صلاة الجمعة في الجامع الأموي” ويضمون حلب إلى الولايات التركية، إلا أن الأمر في الحقيقة كان مرتبطًا بمشروع الشرق الأوسط الكبير. يبدو الآن واضحًا أن أردوغان، بصفته أحد شركاء هذا المشروع، تلقى في هذه الأيام أمر “قم بما يجب عليك لوضع اللمسات الأخيرة على مشروع تقسيم سوريا”.
سبق أن نشر العديد من التقارير التي تفيد بأن هذه اللعبة ستكون كارثة على شعب كل من تركيا وسوريا، واحد منها ما نشرته جامعة تورغوت أوزال عام 2012. فقد حذر الخبراء من خلال هذا التقرير وأمثاله من أن نظام الأسد سيضطر إلى الاعتماد على إيران، وأن سوريا ستقع تحت النفوذ الإيراني، كما حدث في العراق. كما كان متوقعًا، طلب الأسد الدعم من إيران وروسيا، فأرسلت إيران قوات ومليشيات إلى سوريا، مثل “حزب الله”. واستغلت روسيا حالة الضيق للأسد للحصول على قواعد بحرية وجوية على الأراضي السورية، مما أتاح لها الوصول إلى البحر المتوسط لأول مرة منذ عقود، لتصبح جارة تركيا من الجنوب، وتكون فرسي رهان مع الولايات المتحدة في سوريا.
التدخل الإيراني في العراق وسوريا أدى إلى تصعيد الصراعات الطائفية، حيث ظهرت مليشيات مثل “حزب الله”، و”الحشد الشعبي”، و”الحوثيين”، التي حولت المنطقة إلى بحيرة دماء. في المقابل، دعمت دول من “المحور السني” جماعات متطرفة تعرضت للإقصاء والتهميش والإهانة على النظامين العراقي والسوري، مثل تنظيم داعش وما تفرع منه، مما زاد من حدة الانقسام الطائفي وأدى إلى تمزيق الدول وتشكيل مناطق محلية جديدة ضمن حدود الدولة الواحدة.
هجمات “حماس” في 7 أكتوبر 2023 كشفت عن تزايد نفوذ إيران في المنطقة إلى مستوى بحيث يشكل تهديدًا فعليًا لإسرائيل باستخدام حلفائها مثل “حزب الله” و”حماس” و”الحوثيين”.
كانت إيران ملأت فراغ السلطة التي ظهرت في أعقاب العمليات الغربية في العراق وسوريا لصالح المحور الشيعي، مما تسبب في انقسام طائفي عميق. لكنها الآن بدأت تشكل تهديدا لإسرائيل، إذ صارت تستخدم العراق وسوريا باعتبارها دول عبور لمرور الميليشيات والأسلحة، وبات في مقدورها حشد كل أنواع الدعم العسكري واللوجستي ضد إسرائيل. لذلك أعتقد أن الأحداث السورية الأخيرة ظهرت عندما رأت إسرائيل خطورة هذا المشهد، وطلبت من الولايات المتحدة تسريع عملية تقسيم سوريا لكسر نفوذ إيران في المنطقة.
في الوقت الذي تنشغل فيه روسيا بالحرب الأوكرانية، وتتعرض إيران وحلفاؤها (حماس وحزب الله) لأضرار جسيمة، أقدمت هيئة تحرير الشام، التي لا تُعرف من يسيطر عليها، على تحركاتها المفاجئة الأخيرة. وفي هذا السيناريو، يبدو أن تركيا اتفقت مع الجانب الأمريكي – الإسرائيلي مقابل بعض المكاسب.
إذا سارت الأمور كما هو مخطط لها، فسوف تنقسم سوريا إلى أجزاء، وينكسر نفوذ إيران فيها بحيث لن تستطيع إرسال الأسلحة والذخائر إلى حلفائها مثل حزب الله وحماس عبر العراق وسوريا. ويبدو أن وحدات حماية الشعب الكردي هي أيضًا جزء من اللعبة مثل تركيا. ومن المفهوم أن تركيا اشترطت انسحاب وحدات حماية الشعب إلى شرق الفرات، مقابل حصولها على وعد بالحكم الذاتي الواسع الذي من شأنه أن يؤدي في النهاية إلى إقامة دولة كردية. وفي هذا الإطار من المحتمل أن تنقسم سوريا إلى ثلاثة أجزاء: المناطق العربية النصيرية، والمناطق العربية السنية، والمناطق الكردية.
كانت هجمات 11 سبتمبر 2001 نقطة البداية لمشروع الشرق الأوسط الكبير، حيث أصبحت ذريعة لتغيير الوضع الراهن وخلق توازنات جديدة في الشرق الأوسط. في حين كان هجوم 7 أكتوبر 2023 على إسرائيل بمثابة بدايةٍ لرسم خرائط جديدة في الشرق الأوسط. تستخدم القوى العظمى داعش والتنظيمات المشتقة منه في الشرق الأوسط لإقناع العالم والشعوب بضرورة تغيير الأوضاع الراهنة، ومن ثم تقوم بتحديث الخرائط في المنطقة. لذا سوف نرى غياب هيئة تحرير الشام بعد إتمام إعادة رسم الخرائط وانتهاء مهمته.
ولا نعرف ما إذا كانت تركيا ستستفيد من هذه اللعبة أم أنها ستخلق مشاكل جديدة لها، لكن المؤكد أن صفحات التاريخ سجلت حكومة أردوغان باعتبارها “حامي تنظيم” لا نعرف من أسسه ومن يسيطر عليه اليوم.