تشهد سوريا مرحلة انتقالية معقدة بعد انهيار نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع إلى رئاسة البلاد، وهي مرحلة تتجاوز حدود الداخل السوري لتطال التوازنات الإقليمية. إذ برز الدور الخليجي بقوة، ما جعل السعودية والإمارات وقطر فاعلين رئيسيين في تحديد مسار إعادة تشكيل الدولة السورية. في المقابل، وجدت تركيا نفسها أمام واقع جديد يضعف نفوذها التقليدي الذي استمر لعقد كامل في الملف السوري.
لقاء الرياض وتحول المسار
في أيار/مايو 2025، استضافت الرياض اجتماعاً ثلاثياً جمع الرئيس السوري أحمد الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. شكل هذا اللقاء نقطة تحول محورية، إذ وضع الأسس لرفع تدريجي للعقوبات عن دمشق وفتح الباب أمام استثمارات خليجية واسعة في إعادة الإعمار، مع تولي السعودية رعاية مفاوضات حساسة في الإقليم.
تركيا أمام واقع جديد
اعتمدت أنقرة لسنوات على الملف السوري بوصفه جزءاً من أمنها القومي وأداة لإدارة أزمة اللاجئين، إلا أن المتغيرات الأخيرة قلّصت قدرتها على التأثير. فقد انتقلت أدوات النفوذ من الميدان العسكري إلى شبكات التمويل والاستثمارات الخليجية، ما جعل القرار السوري يرتبط بشكل مباشر بالعواصم الخليجية، بينما انحصر الدور التركي في إدارة الحدود الشمالية وملفات أمنية محددة.
تحولات النفوذ الاقتصادي
وفقا لمصادر عربية، خسرت تركيا أبرز أوراقها الاقتصادية في سوريا مع دخول الاستثمارات الخليجية بقوة. فالإمارات عززت حضورها عبر السيطرة على الموانئ، فيما ساهمت قطر في إعادة جدولة الديون، وتولت السعودية رعاية الملفات المالية والسياسية الكبرى. هذه التحولات جعلت أدوات أنقرة التقليدية في التجارة والتنمية أقل فاعلية، وأضعفت قدرتها على منافسة التمويل الخليجي المتدفق.
تراجع سياسي وأمني
لم يتوقف التراجع التركي عند الجانب الاقتصادي، بل شمل الملفات الأمنية والسياسية. فالقضية الكردية في شمال شرق سوريا، التي كانت ورقة ضغط استراتيجية بيد أنقرة، باتت اليوم خاضعة لترتيبات دولية–خليجية تهدف إلى موازنة النفوذ على الأرض. وفي الجنوب السوري، تتصدر إسرائيل، بدعم أميركي، مشهد بناء منطقة عازلة تؤمن مصالحها الأمنية، فيما غابت تركيا عن دائرة التأثير المباشر.
إعادة إدماج دمشق عربياً
سعى الخليج إلى تجاوز البعد الاقتصادي نحو البعد السياسي، من خلال إدارة ملفات حساسة أبرزها إعادة دمج دمشق في النظام العربي والإقليمي. هذا التطور ترك تركيا أمام معضلة مزدوجة: إما القبول بدور ثانوي يقتصر على مراقبة الحدود وإدارة ملف الأكراد واللاجئين، أو محاولة العودة إلى المعادلة عبر تحالفات جديدة، وهو خيار صعب في ظل التفوق المالي والسياسي الخليجي وتراجع القدرة التركية على المنافسة.
انسحاب القوى التقليدية وصعود الخليج
مع الانسحاب التدريجي لإيران وروسيا من العمق السوري، فُتح المجال أمام دول الخليج لتتصدر مشهد إعادة الإعمار والوساطة السياسية. وأمام هذا المشهد، لم تعد أنقرة قادرة على فرض شروطها كما في السابق، بل تركز دورها على احتواء المخاطر المباشرة من الحدود، دون التأثير الفعلي في صياغة مستقبل الدولة السورية، وفقا لتقارير نشرتها صحف عربية، منها “الشرق الأوسط”، و”العرب” الدوليتين.
تداعيات على الداخل التركي
تتزامن هذه التحولات مع أزمات داخلية متصاعدة في تركيا، تشمل ضغوطاً اقتصادية وتحديات متنامية في ملف اللاجئين. وبينما يحقق الخليج مكاسب استراتيجية واقتصادية، أصبحت أنقرة محصورة في دور دفاعي محدود، ما يزيد من هواجسها تجاه العزلة الإقليمية.
احتمالات التحول في الاستراتيجية التركية
أمام هذا الواقع، قد تجد تركيا نفسها مضطرة لإعادة تعريف استراتيجيتها في سوريا، عبر التحول من سياسة التدخل المباشر إلى مقاربة تقوم على البراغماتية والتحالفات الانتقائية. وقد تضطر إلى تقديم تنازلات ضمنية لدول الخليج في ملفات إعادة الإعمار والتفاوض مع دمشق وحتى في الترتيبات مع إسرائيل، تجنباً للتهميش الكامل.
مستقبل التوازنات الإقليمية
على المدى القصير، ستبقى أنقرة في موقع المراقب للشمال السوري مع إدارة ملف الأكراد واللاجئين، لكن على المدى المتوسط قد يتبلور توازن دقيق في العلاقة التركية–الخليجية يقوم على تبادل المصالح الاقتصادية والاستثمارية، وربما تعاون محدود في مجالات الطاقة والبنية التحتية. أما على المدى البعيد، فإن استمرار الهيمنة الخليجية قد يعيد صياغة الدور التركي الإقليمي بشكل جذري، ويضع أنقرة أمام اختبار صعب للحفاظ على مكانتها داخل حلف شمال الأطلسي وعلاقاتها مع الولايات المتحدة، في مواجهة تمدد النفوذ الخليجي والإسرائيلي والإيراني.
تداعيات أمنية واسعة
سيطرة الخليج على إعادة الإعمار والوساطة السياسية مع دمشق، بالإضافة إلى إسرائيل تفتح الباب أمام ترتيبات جديدة في الجنوب والشرق السوري قد تغيّر موازين القوى العسكرية والسياسية، ما يزيد الضغوط على أنقرة للتكيف مع واقع فقدت فيه زمام المبادرة. كما أن ضعف الدور التركي قد ينعكس على قضايا الأمن الإقليمي مثل مكافحة الإرهاب، وضبط المجموعات المسلحة، ومراقبة الحدود الكردية والمليشيات المحلية.

