ذكرت لجنة البندقية، وهي الهيئة الاستشارية التابعة لمجلس أوروبا بشأن القضايا الدستورية، في تقرير حديث أن السلطات الممنوحة للرئيس والبرلمان التركي لتعيين معظم أعضاء المجلس الأعلى للقضاة والمدعين (HSK) تمنح السلطة التنفيذية “سيطرة كاملة” على هيئة يُفترض أن تضمن استقلال القضاء.
وأشارت اللجنة في تقريرها، الذي نُشر يوم الاثنين بناءً على طلب لجنة المراقبة التابعة للجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا (PACE)، إلى قلقها البالغ بشأن تشكيل وعمل المجلس الأعلى للقضاة والمدعين في تركيا، الذي يتحمل مسؤولية تعيين القضاة وترقياتهم والإجراءات التأديبية بحقهم.
هيمنة السلطة التنفيذية
وجدت اللجنة أن الرئيس التركي، بصفته رئيس السلطة التنفيذية، يعين بشكل مباشر ستة من بين 13 عضوًا في المجلس، بينما يتم اختيار ثلاثة أو أربعة أعضاء إضافيين من قبل البرلمان التركي، حيث يتمتع الحزب الحاكم بنفوذ كبير. ويمنح هذا الوضع السلطة التنفيذية سيطرة طاغية على هيئة من المفترض أن تكون ضامنة لاستقلالية القضاء.
في النظام الرئاسي التركي، الذي أراد أردوغان له أن يكون “بنكهة تركية”، على حد وصفه، يمارس الرئيس صلاحياته كرئيس للسلطة التنفيذية ورئيس للدولة، بالإضافة إلى دوره الفاعل في السياسة الحزبية.
غياب انتخابات الأقران
وفقًا للمعايير الدولية، يُوصى بانتخاب ما لا يقل عن نصف أعضاء المجلس القضائي من قبل القضاة أنفسهم لضمان استقلالية المؤسسة، إلا أن الوضع في تركيا مختلف؛ إذ إن القضاة والمدعين لا يتم انتخابهم من قبل زملائهم، بل يُعيَّنون من قبل الرئيس أو يُختارون من خلال عملية برلمانية تهيمن عليها الأغلبية الحاكمة.
وترى اللجنة أن هذا الأمر يخلق قضاءً خاضعًا للسلطة السياسية، ويزيد من خوف القضاة والمدعين من التعرض للانتقام أو العزل. كما انتقدت اللجنة وجود أعضاء بحكم مناصبهم في المجلس، مثل وزير العدل ووكيل وزارة العدل، معتبرة أن هذه الأدوار تتيح للسلطة التنفيذية التأثير على القرارات القضائية والإجراءات التأديبية وحتى التحقيقات ضد القضاة والمدعين.
مخاوف بشأن الحصانة والاستقلالية
أشار التقرير إلى غياب ضمانات كافية لحماية أعضاء المجلس من ضغوط غير مبررة أو إقالات ذات دوافع سياسية. وذكر أن الإطار القانوني الحالي يسمح باستخدام مزاعم غامضة ومعايير غير واضحة لتوجيه تحذيرات أو عزل الأعضاء، مما يهدد استقلاليتهم. وأوصى التقرير بضرورة إدخال ضمانات دستورية تحمي أعضاء المجلس من هذه المخاطر.
مشكلات هيكلية
تعرض النظام القضائي التركي لانتقادات متزايدة منذ تحول البلاد إلى النظام الرئاسي عقب استفتاء دستوري في عام 2017. وأكدت لجنة البندقية أن استقلال القضاء يُعد حجر الزاوية في الديمقراطية، مشددة على الحاجة الملحة لإصلاحات تزيل الطابع السياسي عن تعيين القضاة وتعزز الشفافية.
وأوضحت اللجنة أن تركيا تُعد حالة استثنائية في أوروبا، حيث تعتمد معظم الدول آليات انتخابات الأقران أو إجراءات تحمي المؤسسات القضائية من النفوذ السياسي. ودعت إلى تغييرات تشريعية تزيد من نسبة القضاة المنتخبين من قبل زملائهم وتحسن تمثيل التنوع داخل الهيئة القضائية.
دعوات للإصلاح
طالبت اللجنة تركيا بإزالة وزير العدل ووكيل الوزارة من المجلس الأعلى للقضاة والمدعين، وزيادة نسبة القضاة والمدعين المنتخبين من قبل زملائهم لتصل إلى نصف أعضاء المجلس على الأقل. كما دعت إلى وضع معايير واضحة ومحدودة للإجراءات التأديبية ضد أعضاء المجلس، لضمان الأمن الوظيفي والحصانة، وتوسيع نطاق المجلس لتحقيق تمثيل أوسع للقضاة والمدعين ومختلف الفئات الاجتماعية.
وحذرت اللجنة من أن النظام الحالي يقوض ثقة العامة في القضاء ويعزز مناخ الخوف بين القضاة والمدعين، الذين أعرب العديد منهم عن مخاوفهم من التعرض لعقوبات أو نقل قسري بدوافع سياسية. وأكدت أن استقلال القضاء شرط أساسي للحفاظ على سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان.
التوتر بين القضاء والسلطة التنفيذية
واجه القضاء التركي هجومًا لاذعًا من الرئيس رجب طيب أردوغان في عام 2013، بعد تحقيق في قضايا فساد طالت أعلى مستويات حكومته. واتهم أردوغان القضاة والمدعين، وكذلك ضباط الشرطة المشاركين في التحقيق، بالعمل لصالح حركة الخدمة التي قادها الراحل فتح الله كولن.
حتى عام 2016، سعى أردوغان لإعادة تشكيل القضاء من خلال تعيين الموالين في مناصب حيوية. وبعد محاولة انقلاب فاشلة في يوليو 2016، شهدت تركيا حملة قمع غير مسبوقة استهدفت بشكل أساسي معارضي أردوغان.
تعرض أكثر من 4,000 قاضٍ ومدعٍ للفصل عقب الانقلاب الفاشل بسبب مزاعم ارتباطهم بحركة كولن، التي تنفي أي علاقة لها بالمحاولة الانقلابية. ويُعتقد أن هذه الحملة أثرت سلبًا على النظام القضائي بأكمله، حيث أُجبر القضاة والمدعون الباقون على اتباع سياسات الحكومة خوفًا من التحقيقات أو النقل بدوافع سياسية.
في مؤشر سيادة القانون لعام 2024 الذي أصدره مشروع العدالة العالمي، احتلت تركيا المرتبة 117 من بين 142 دولة، محافظةً على ترتيبها لعام 2023.