بقلم: ياوز أجار
في خضمّ التحولات المتسارعة في المشهد السياسي التركي، خرج رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، أمس، ببيان مطوّل وغير معتاد في توقيته ومضمونه، أثار موجة من التفسيرات المتضاربة حول خلفياته وأبعاده. فقد احتوى البيان، الذي بدا وكأنه صيغ بعناية شديدة، على إشارات مباشرة وغير مباشرة إلى زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي، وضمّن فيه مواقف لافتة تحمل في طياتها دعوة إلى إعادة النظر في خارطة التحالفات السياسية.
ما وراء سطور بيان إمام أوغلو
رغم أن البعض قلل من أهمية البيان واعتبره نوعاً من المبالغة، فإن متابعين للشأن السياسي يرون فيه حدثاً استثنائياً بالنظر إلى تتابع المواقف والتصريحات التي صدرت مؤخراً من شخصيات سياسية بارزة، وعلى رأسهم دولت بهجلي.
وكان بهجلي قد أدلى بتصريحات مطوّلة بشأن قضية محاكمة إمام أوغلو ورفاقه، حيث شدد على ضرورة الإسراع في إصدار الحكم النهائي: “إن كانوا أبرياء فليُبرّأوا، وإن كانوا مذنبين فليُعاقَبوا”، في موقف فُهم منه – بحسب بعض التحليلات – أن بهجلي لم يعد يرى مبرراً لاستمرار هذه المحاكمة دون حسم.
كما نشر بهجلي اليوم بيانا خطيا عبر منصة أكس أكد فيه أن فكرة تعيين وصي على حزب الشعب الجمهوري (CHP) ليست فقط “غير صحيحة” بل “غير ممكنة” أيضاً، واصفًا المروّجين من الصحفيين الموالين لأردوغان (راسم أوزان كوتاهيالي) لشائعة “الوصاية” بأنهم “شياطين متغلغلون حتى أعماقنا”، محذّراً من خطورة “التلاعب الإعلامي وإثارة الشكوك عبر وسائل التواصل الاجتماعي”. واختتم بهجلي بيانه بدعوة إلى “العودة للعقل الرشيد”، معتبراً أن “افتقاد التوازن الفكري يؤدي إلى السقوط الأخلاقي والانحراف السياسي”.
ومن ثم أعلنت النيابة العامة في إسطنبول توقيف الصحفي الموالي لأردوغان، راسم أوزان كوتاهيالي، إثر تصريحاته التي زعم فيها احتمال تعيين وصي على حزب الشعب الجمهوري، في إطار تحقيقات بتهمة “نشر معلومات مضللة علناً”، وذلك تنفيذا لأوامر النيابة العامة في العاصمة أنقرة.
إمام أوغلو التقط إشارات وتصريحات بهجلي والتطورات اللاحقة، وفهمها – كما قال صراحة – بأنها دعوة للإفراج عنه وعن زملائه، بل عبّر عن تقديره لهذا الموقف، قائلاً: “أعتبر تشخيص السيد بهجلي حول مسار القضاء في قضيتنا، ودعوته ذات الصلة، في غاية الأهمية”. وهنا تبرز ملاحظة أساسية، وهي أن إمام أوغلو لم يتعامل مع بهجلي بوصفه جزءاً من سلطة سياسية تتحمل تبعات هذه القضية، بل تعامل معه بوصفه طرفاً محايداً أو حتى متفهماً.
تغيير في الخطاب: لغة جديدة تتبنى هموم التيار القومي المحافظ
ما يدعو للتوقف أيضاً هو اللغة التي كُتب بها بيان إمام أوغلو؛ إذ استخدم فيه تعبيرات ومفردات تنتمي إلى الثقافة السياسية القومية المحافظة، واستعان بتعابير مثل “البقاء”، و”الدولة القوية”، و”الوحدة الوطنية”، وتكرار لعبارة “أمل تركيا بلا إرهاب” وهي من المصطلحات التي غالباً ما يستخدمها بهجلي.
كما اعتمد البيان على أدوات الخطاب القومي مثل: “تحوّل منطقتنا إلى دائرة نار”، و”تغير قواعد النظام الاقتصادي العالمي”، و”التهديدات التي تستهدف وحدة البلاد”. كل ذلك يشير إلى أن البيان لم يُكتب على نحو تقليدي، بل خُطط له ليكون متوجهاً إلى جمهور بهجلي، وربما إلى بهجلي نفسه.
خطاب مزدوج: تحميل أردوغان المسؤولية وتبرئة بهجلي
في المقابل، كان واضحاً أن إمام أوغلو حمّل الرئيس رجب طيب أردوغان مسؤولية ما وصفه بـ”الفوضى والأزمة والاضطراب السياسي”، وصرّح بشكل لا لبس فيه: “كل هذه الفوضى والاضطراب ناتجة عن تفضيل رئيس الجمهورية لهذه السياسات”. وبذلك، فصل بوضوح بين أردوغان وبهجلي، مؤكداً أنه لا يعتبر بهجلي جزءاً من هذه الفوضى.
بل ذهب أبعد من ذلك عندما دعا، بشكل ضمني، بهجلي إلى التفكير في شراكة بديلة خارج إطار التحالف القائم مع أردوغان، مشيراً إلى أن “حلّ قضايا البلاد الوجودية لا يمكن أن يتمّ مع أردوغان، بل مع أطراف تتشارك الهم الوطني الحقيقي”.
رهان إمام أوغلو: رسالة سياسية أم مبادرة استراتيجية؟
ما يمكن استخلاصه من هذا البيان المطوّل أن إمام أوغلو يسعى إلى أن يكون “صانع لعبة” في السياسة التركية، لا مجرد لاعب رد فعل. ويبدو أنه قدّر أن الشراكة بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية تمرّ بمرحلة ضعف، مستغلاً بذلك إشارات متكررة من بهجلي، تمثلت في انتقاداته الضمنية لأردوغان عبر وسائل الإعلام، وهو ما دفع الأخير، وفق بعض المحللين، إلى الإشادة المبالغ بها ببهجلي وحزبه في مناسبات متكررة بهدف احتواء هذه التصدعات.
ومن ثم، فإن إمام أوغلو يبدو أنه قرأ هذا المشهد بدقة، وقرر الدخول على خط الخلاف، عارضاً على بهجلي إمكانية التعاون من أجل مواجهة “أزمة البقاء” التي يواجهها البلد – بحسب تعبيره – عبر شراكة جديدة تتجاوز أردوغان.
بين المبادرة والاحتمال السياسي
لا يمكن الجزم برد فعل دولت بهجلي على هذه الرسالة غير المباشرة، خاصة أنه لا يتفاعل سريعاً مع ما يُنشر خارج القنوات الرسمية أو الخطاب البرلماني. ومع ذلك، فإن صدور بيان بهذه الصياغة واللغة والتوقيت، قد يكون مؤشراً على أن إمام أوغلو لا يكتفي بانتظار نتائج المحاكمة أو الانتخابات، بل يحاول أن يكون لاعباً محورياً يسعى لكسر التحالفات التقليدية، وفتح أبواب حوار جديدة.
رسائل مبطّنة إلى أردوغان خلف ستار مهاجمة المعارضة
في مشهد سياسي يتّسم بتعقيد متزايد وتحالفات هشة، باتت تصريحات بهجلي، تخضع لتأويلات عديدة، خاصة بعد تصاعد نبرة الانتقاد تجاه المعارضة، في وقت يرى فيه كثيرون أن المقصود الحقيقي بتلك الرسائل ليس إلا أردوغان نفسه، شريكه في “تحالف الجمهور” الحاكم.
يرى العديد من المراقبين والمحللين السياسيين أن التصريحات الإعلامية التي يدلي بها دولت بهجلي، تتضمن رسائل غير مباشرة موجهة إلى الرئيس أردوغان، وذلك رغم طابعها الظاهري الذي يركّز على مهاجمة المعارضة، وخصوصاً حزب الشعب الجمهوري. ويشير هؤلاء إلى أن بهجلي، بخبرته السياسية الطويلة، يدرك أن مشروع أردوغان لتحويل النظام إلى حكم فردي مطلق قد يُقصي جميع الحلفاء بمن فيهم حزب الحركة القومية، وأن أي انزلاق نحو ديكتاتورية غير مقنّعة سيؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض التحالف الذي شُكّل عام 2018.
في هذا السياق، يُنظر إلى خطاب بهجلي العدائي تجاه المعارضة بوصفه غطاءً سياسياً لإظهار الولاء لتحالفه مع أردوغان، بينما يحمل في طيّاته رسائل تحذيرية مشفّرة لشريكه في الحكم، تحذّره من مغبّة التفرد بالسلطة أو تجاوز التفاهمات الجوهرية التي بُني عليها التحالف.
مواقف بهجلي وتوقيت دعوة إمام أوغلو
ويُرجّح المراقبون أن بهجلي يتحرّك وفق منطق “الشريك المُراقِب” الذي يُبقي على ورقة تهديد استراتيجية في يده، وهي التلويح بفك التحالف والدعوة إلى انتخابات مبكرة في حال شعر بأن أردوغان لم يعد ملتزماً بقواعد الشراكة أو بصيغة “الرئاسة بنكهة قومية”. كما يستند هذا التقدير إلى قناعة متنامية في أوساط المعارضة وبعض النخب القومية، بأن مشروع أردوغان للدولة الجديدة لا يتّسع لشركاء حقيقيين، بل يسير نحو مركزية شديدة تُقصي حتى الحلفاء، وهو ما قد يجعل بهجلي يُعيد ترتيب أولوياته، أو يعيد التموضع في اللحظة الحاسمة.
وفي هذه النقطة بالذات تكتسب دعوة إمام أوغلو بهجلي إلى التخلي عن التحالف مع أردوغان وتشكيل تحالف جديد لإعادة إحياء الديمقراطية وعرقلة الانزلاق نحو الدكتاتورية أهمية قصوى.

