في تطور يكشف عن حجم التداخل بين السلطة والفساد، تفجّرت في قبرص قضية كبرى تتعلق برشى وتبييض أموال وتهريب مخدرات، طالت شخصيات بارزة في حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا. غير أن اللافت في القضية لم يكن فقط مضمون الفضائح، بل محاولات التعتيم الإعلامي الممنهج من قِبل أجهزة الدولة، وسط تساؤلات متزايدة حول “تسجيلات الابتزاز” التي اختفت في ظروف غامضة.
جميل أونال يفجر القنبلة: فساد بملايين الدولارات يطال رموز الحكم
بدأت الشرارة مع تصريحات مثيرة أدلى بها جميل أونال، أحد رجال الأعمال المرتبطين بشبكة الفساد التي كان يقودها المدعو خليل فاليالي في قبرص، قبل اغتياله في ظروف غامضة، كشف فيها عن تفاصيل مذهلة بشأن تورط مسؤولين بارزين من الحزب الحاكم في عمليات تبييض أموال، وتجارة مخدرات، وقبض رشى بمبالغ فلكية، وذلك في حوار أجرته معه صحيفة “قبرص اليوم” ولا تزال تنشره على فترات معينة، علما أنه (جميل أونال) يحظى بحماية دولية في هولندا بعد أن أصبح معترفا لدى السلطات الهولندية والأمريكية.
بحسب ما أفاد به أونال، فإن وزير الداخلية الأسبق سليمان صويلو تلقى مبلغ 20 مليون دولار كرشوة، بينما حصل نائب الرئيس السابق فؤاد أقطاي على 50 مليون دولار، مضيفًا أن النظام بأكمله كان على علم بتفاصيل هذه الشبكة. لكنه أشار إلى أن الأزمة تفجرت بعد أن لم يحصل الرئيس أردوغان على “نصيبه” من هذه الأموال، ما أدى إلى تصدعات داخلية وتسريبات لم تكن محسوبة.
أين اختفت تسجيلات الابتزاز؟
واحدة من أخطر جوانب هذه القضية تتعلق بما يعرف بـ”تسجيلات الابتزاز المفقودة”، وهي عبارة عن ملفات صوتية ومصورة يُعتقد أنها توثّق لقاءات بين مسؤولين كبار وأطراف في شبكات الفساد. كانت هذه التسجيلات محفوظة في قبرص، ويُعتقد أنها كانت تُستخدم كوسيلة للضغط والابتزاز المتبادل بين الشخصيات المتورطة.
بحسب ما نقله أونال، فإن ياسين أكرم سريم، ابن مقصود سريم، الذي أدار النفقات السرية في عهد رئاسة أردوغان للوزراء، تم تعيينه سفيرًا في قبرص بغرض جمع تلك التسجيلات من أرشيف فاليالي، وبدأ بإجراء لقاءات سرية في منزل والد أوزجه فاليالي، زوجة خليل فاليالي. وعلى الرغم من تسليم 40 شريطًا، بقيت 5 أشرطة مفقودة، وهو ما دفع الرئيس أردوغان للتدخل مباشرة واستدعاء سريم إلى أنقرة، ليقيله لاحقًا من منصبه لفشله مع والده في هذا الصدد.
وقد أشار الصحفي سردار أكينان إلى أن هذه التسجيلات كانت معروفة لدى جهاز الاتصال الحكومي، بل وشكّلت جزءًا من “خريطة المخاطر” التي وُضعت لرصد التهديدات الإعلامية والسياسية المحتملة.
التعتيم الإعلامي: تعليمات عليا بعدم التطرق للقضية
تشير المعطيات إلى أن النظام الحاكم في أنقرة، ممثلاً برئاسة فخر الدين ألطون لجهاز الاتصال، تحرّك مبكرًا لاحتواء تداعيات تصريحات أونال. فبحسب مصادر إعلامية، تم الاتصال مباشرة بعدد من القنوات التلفزيونية التركية – مثل “خلق تي في” و”سوزجو تي في” – للتنبيه بعدم نشر أي تغطية أو تحليل حول القضية.
وقد لوحظ بالفعل صمت هذه القنوات عن الموضوع، وهو ما يعزز فرضية وجود توجيه رسمي بمنع التغطية الإعلامية، خوفًا من خروج الفضيحة عن السيطرة وارتباطها بتسجيلات لم تعد تحت السيطرة الأمنية.
خريطة المخاطر: تكنولوجيا المراقبة للسيطرة على الرأي العام
كشفت تسريبات أخرى أن دائرة الاتصال في الرئاسة قامت بإعداد ما يعرف بـ”خريطة المخاطر”، وهي عبارة عن آلية تحليل تعتمد على مراقبة الكلمات المفتاحية المرتبطة بالقضية (مثل: جميل أونال، فاليالي، صويلو، أردوغان، التسجيلات، كاسيت، إلخ). تهدف هذه الأداة إلى التنبؤ بمسار النقاش الشعبي والإعلامي، ومن ثمّ التدخل في الوقت المناسب لمنع تصاعده.
ساحة حرب رقمية: الهجوم على الإعلام القبرصي
لم تكتف الدولة التركية بالإجراءات الإعلامية الداخلية، بل توجهت إلى تنفيذ هجمات إلكترونية ضد وسائل الإعلام القبرصية التي بدأت بنشر الملف، وعلى رأسها موقع “Kıbrıs Today”. وتفيد التقارير بأن هيئة BTK التركية ودائرة الاتصال قد شنتا هجومًا سيبرانيًا لتعطيل المنصات التي تنشر معلومات حول الفضيحة، فيما يشبه “حرب معلومات” تهدف إلى محو آثار التسجيلات والتسريبات.
أزمة نظام لا أزمة أفراد
تعكس هذه القضية، بما تحمله من تسجيلات مفقودة، ورشى مالية، وتعتيم إعلامي، وتضييق على الحريات الصحفية، أزمة بنيوية داخل النظام السياسي التركي، وليست مجرد تجاوزات فردية. في ظل غياب الشفافية، وتضارب المصالح بين أجهزة الدولة، تبقى الحقيقة ضائعة خلف طبقات من الإنكار، والسيطرة، والتلاعب الإعلامي.

