يتناول فيلم “فيرميليو” (Vermiglio) للمخرجة الإيطالية ماورا ديلبيرو الحياة في الريف الإيطالي أثناء الحرب العالمية الثانية، في إطار يمزج بين التأريخ الشخصي والأسلوب السينمائي العميق.
ورغم أن الفيلم يستلهم من أعمال كلاسيكية مثل “امرأتان” لـ فيتوريو دي سيكا و”روما، مدينة مفتوحة” لـروبرتو روسيليني، إلا أنه يختار الابتعاد عن الكثافة الدرامية التقليدية، ليركز بدلاً من ذلك على التأثيرات النفسية والزمنية للبيئة الطبيعية على الشخصيات، بأسلوب يذكرنا بالفيلم التركي “ذات مرة في الأناضول” لنوري بيلغه جيلان، وفقا للتحليل الذي قدمه الكاتب التركي المتخصص في مجال السينما نديم حذار.
فيرميليو: مكان وذاكرة
فيرميليو، وهي بلدة صغيرة تقع شمال إيطاليا في منطقة ترينتينو-ألتو أديجي، لعبت دوراً بارزاً أثناء الحرب العالمية الأولى وما زالت تحتفظ بآثار تاريخية لتلك الحقبة. هذا المكان المعزول والجميل يخلق خلفية ملحمية للأحداث التي تدور في شتاء نهاية الحرب العالمية الثانية.
تبدأ القصة في فصل الشتاء، بعد أشهر من إعدام الديكتاتور بينيتو موسوليني بالقرب من بحيرة كومو. وصول الجندي الهارب بيترو (جوزيبي دي دومينيكو)، القادم من صقلية، إلى البلدة يغير مسار الأحداث. تتطور علاقة عاطفية بينه وبين لوتشيا، الابنة الكبرى للمعلم المحلي، ما يؤدي إلى اضطرابات في التوازن الاجتماعي والعائلي للقرية.
شخصيات تحمل عبء الزمن
القصة تستند بشكل كبير إلى ذكريات عائلة المخرجة، خاصة والدها، مما يضفي عليها طابعاً شخصياً وعاطفياً عميقاً. تتمحور الأحداث حول عائلة المعلم تشيزاري (توماسو راجنو) وزوجته أديل (روبرتا روفيلي) وبناتهم الثلاث: (لوتشيا) (مارتينا سكرينزي) (آدا( (راكيلي بوتريتش)، و(فلافيا( (آنا تالر).
الدين والفن: سرد متعدد الطبقات
يقدم الفيلم معالجة بصرية ورمزية للدين، حيث يستكشف البنى الاجتماعية الكامنة وراء الممارسات الكاثوليكية، مع استحضار أسطورة القديسة لوتشيا في نسج معاني التضحية والقبول. هذا النهج يضع الفيلم في سياق أعمال أخرى، مثل مسلسل “البابا الشاب” لـباولو سورينتينو أو فيلم “الحياة الخفية” لتيرينس ماليك، حيث تُعرض الحياة اليومية في ظلال القيم الدينية والجماليات الروحية.
أسلوب إخراجي مميز
اختارت ماورا ديلبيرو تبني نهج إخراجي يذكرنا بأسلوب روبرت بريسون في الاقتصاد السردي والبصري، مع لمسة أكثر دفئاً وإنسانية. الأداء التمثيلي متقن، بينما تتخذ الكاميرا أسلوباً يشبه لوحات فيرمير في استخدام الإضاءة الداخلية، مما يجعل كل لقطة تبدو كأنها لوحة فنية تعكس الحياة الداخلية للشخصيات.
المرأة في مركز السرد
على عكس الأفلام الحربية التقليدية، يركز “فيرميليو” على النساء وتجاربهن اليومية أثناء غياب الرجال في الحرب. يعكس الفيلم قيود المجتمع التقليدي وتأثيراتها العميقة، مسلطاً الضوء على قوة النساء في مواجهة الصعاب.
تأمل في الزمن والطبيعة
تتناغم مشاهد الفيلم مع الطبيعة، حيث تُستخدم تغيرات الفصول كأداة سردية لتمثيل التحولات الداخلية والخارجية للشخصيات. الانتقال من شتاء الوحدة والحماية إلى ربيع الانكشاف والواقعية القاسية يعبر عن قدرة البشر على التكيف مع الأزمات.
إنجاز سينمائي بارز
حصل الفيلم على جائزة الأسد الفضي (جائزة لجنة التحكيم الكبرى) في مهرجان البندقية السينمائي 2024، كما عُرض في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي وفاز بجائزة غولد هوغو لأفضل فيلم في مهرجان شيكاغو السينمائي. واختير لتمثيل إيطاليا في جوائز الأوسكار لعام 2025، وسجل نجاحاً تجارياً لافتاً بمعدل إيرادات بلغ 5,000 يورو لكل نسخة خلال أسبوع عرضه الأول.
رسالة إنسانية عالمية
يختزل الفيلم في جملته رسالة إنسانية عميقة، حيث يروي حكايات البسطاء الذين لا يظهرون في كتب التاريخ الكبرى. يقدم “فيرميليو” سرداً مؤثراً عن الحب، والإيمان، والمثابرة، في ظل الحروب التي لا تقتصر على ساحات القتال بل تمتد لتشمل حياة الناس اليومية.
“فيرميليو” هو شهادة بصرية وشعرية على قسوة الحرب وجمال البقاء الإنساني.. فيلم لا يُفوت لمحبي السينما العميقة.