كشف المحلل السينمائي التركي نديم حذار في مقاله المنشور على موقع TR724 التركي الإخباري عن أوجه التشابه اللافتة بين حريق الرايخستاغ في ألمانيا، الذي مهد الطريق لنشوء الديكتاتورية، والمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا في 15 يوليو 2016، والتي رأى الكاتب أنها أدت دورًا مشابهًا.
وفيما يلي خلاصة هذا المقال:
في ليلة 27 فبراير 1933، اهتز قلب برلين على وقع ألسنة اللهب المتصاعدة من مبنى الرايخستاغ، البرلمان الألماني. لم يكن هذا الحريق مجرد حادث عابر، بل شكَّل نقطة تحول حاسمة في تاريخ ألمانيا، حيث استخدمه أدولف هتلر بمهارة ليبرر فرض سلطته المطلقة والقضاء على معارضيه السياسيين. هذه الحادثة تعكس كيف يمكن للأزمات الكبرى أن تصبح أدوات في أيدي الأنظمة الاستبدادية لهدم الديمقراطية باستخدام آلياتها الخاصة.
الديمقراطية: نظام هش يمكن إسقاطه من الداخل
منذ فجر التاريخ، كانت الديمقراطية واحدة من أكثر النظم السياسية هشاشة، إذ لطالما استغل القادة السياسيون آلياتها لتهديمها من الداخل. من أثينا القديمة إلى روما الجمهورية، ومن الثورة الفرنسية إلى الأنظمة الحديثة، نجد أن بعض القادة نجحوا في تقويض الديمقراطية عبر استغلال قوانينها ومؤسساتها.
من الأمثلة البارزة، يوليوس قيصر الذي استغل سلطته الشعبية داخل الجمهورية الرومانية ليعزز نفوذه تدريجيًا، محوِّلًا النظام من جمهوري إلى استبدادي. وكذلك الحال مع نابليون بونابرت، الذي وظَّف مبادئ الثورة الفرنسية ليصعد إلى الحكم، ثم ليحول الجمهورية إلى إمبراطورية. غير أن المثال الأكثر دموية في العصر الحديث كان أدولف هتلر، الذي تسلق سلم الديمقراطية الألمانية ليطيح بها تمامًا.
ألمانيا بين الإمبراطورية والجمهورية: الأرضية الخصبة لصعود النازية
تأسست الإمبراطورية الألمانية عام 1871 بقيادة مملكة بروسيا واستمرت حتى عام 1918، عندما انتهت بهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. سقوط الإمبراطورية وفرض معاهدة فرساي القاسية على ألمانيا خلَّف شعورًا بالإذلال والضيق الاقتصادي، مما شكل أرضية خصبة لصعود الحركات القومية المتطرفة، وعلى رأسها الحزب النازي.
مع إعلان جمهورية فايمار (1919-1933)، حاولت ألمانيا تبني نظام ديمقراطي برلماني. غير أن هذه الجمهورية عانت من أزمات سياسية واقتصادية متكررة، أبرزها الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1929 التي تسببت في انهيار الاقتصاد الألماني، مما جعل الجماهير تبحث عن مخلص. وهكذا، بدأ الحزب النازي بقيادة هتلر في كسب تأييد واسع عبر استغلال الغضب الشعبي.
حريق الرايخستاغ: “هبة من السماء” لهتلر
مع تصاعد نفوذ الحزب النازي في انتخابات 1932، أدرك هتلر أن عائقًا وحيدًا يقف أمام استيلائه المطلق على السلطة: الحزب الشيوعي الألماني. في هذا السياق، جاء حريق الرايخستاغ ليكون بمثابة الذريعة المثالية لتصفية المعارضة.
في ليلة الحريق، اندلعت النيران في مبنى البرلمان بطريقة بدت وكأنها عمل تخريبي مدبر بعناية. سرعان ما اعتُقل الهولندي الشيوعي مارينوس فان دير لوب، وأعلنت الحكومة النازية أن الحريق مؤامرة شيوعية لقلب النظام. رغم أن تفاصيل الحادثة ما زالت موضع جدل تاريخي، إلا أن العديد من الباحثين يرجحون أن النازيين أنفسهم دبروا الحريق لإيجاد ذريعة للقمع.
القضاء على المعارضة وترسيخ الديكتاتورية
بعد ساعات فقط من الحريق، أصدر هتلر مرسوم حريق الرايخستاغ في 28 فبراير 1933، والذي عطل الحريات المدنية الأساسية، مثل حرية الصحافة والتجمع والتعبير، وأعطى السلطات النازية الحق في تنفيذ اعتقالات تعسفية دون محاكمة.
كان هذا الحدث نقطة البداية لسلسلة من الإجراءات التي أجهضت الديمقراطية نهائيًا:
اعتقال قادة الأحزاب المعارضة، وخاصة الشيوعيين والاشتراكيين، وإغلاق صحفهم.
إقرار قانون التمكين في 23 مارس 1933، الذي منح هتلر سلطات تشريعية مطلقة دون الحاجة إلى موافقة البرلمان، مما جعله الحاكم المطلق لألمانيا.
إلغاء الأحزاب السياسية الأخرى وتحويل ألمانيا إلى دولة الحزب الواحد تحت حكم النازيين.
دروس من التاريخ: كيف تستخدم الأنظمة الأزمات لصالحها؟
حريق الرايخستاغ يعد مثالًا كلاسيكيًا على كيفية استغلال الأزمات لتحقيق أهداف سياسية. عبر التاريخ، استخدمت الأنظمة الاستبدادية أحداثًا مشابهة لترسيخ سلطتها:
في روسيا السوفييتية، استغل ستالين محاولات الاغتيال لتصفية معارضيه في “التطهير العظيم”.
في الولايات المتحدة، استُخدمت هجمات 11 سبتمبر 2001 لتمرير قوانين مثل قانون “باتريوت آكت”، الذي قيد بعض الحريات المدنية بحجة مكافحة الإرهاب.
في تركيا، قورنت محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 بحريق الرايخستاغ، حيث استُخدمت كذريعة لإعلان حالة الطوارئ واعتقال الآلاف.
نار التسلط تحرق الديمقراطية
لم يكن حريق الرايخستاغ مجرد كارثة معمارية، بل كان بداية لحقبة سوداء في التاريخ السياسي الحديث. لقد أظهر كيف يمكن لحادثة واحدة أن تكون نقطة تحول نحو الاستبداد، إذا وُجد من يحسن استغلالها.
الديمقراطية، رغم كل قوتها النظرية، تبقى نظامًا هشًا أمام من يعرف كيف يستخدم قوانينها ضدها. ولذلك، فإن أهم درس يمكن استخلاصه من هذه الحادثة هو أن حماية الديمقراطية لا تكون فقط عبر صناديق الاقتراع، بل تتطلب يقظة دائمة ضد أي محاولات لاستخدام الأزمات كذريعة لتقويض الحريات. فالنار التي تشتعل في مبنى قد تنطفئ، لكن النار التي تلتهم الديمقراطية قد تحرق أمة بأكملها.