فخ التحكيم الدولي يقيد الاندفاعة التركية في العراق
بينما تمضي أنقرة في مشروعها الطموح لتوسيع نفوذها في العراق من بوابة التنمية والطاقة، يبرز في الخلفية ملف ثقيل يهدد هذا المسار: حكم صادر عن هيئة التحكيم الدولية يلزم تركيا بدفع غرامة تبلغ 1.47 مليار دولار لصالح الحكومة العراقية. الحكم جاء نتيجة قيام تركيا خلال سنوات طويلة بتصدير نفط إقليم كردستان دون تنسيق مع بغداد، وهو ما اعتبر خرقاً مباشراً لاتفاقية أنابيب النفط الموقعة بين الدولتين عام 1973. هذا التطور لا يعكس فقط ارتداداً قانونياً مكلفاً، بل يشكل كذلك صدعاً سياسياً داخلياً في تركيا قد تصل ارتداداته إلى قمة هرم السلطة.
غرامة بمليارات الدولارات: نتيجة سياسات نفطية أحادية
تكشّفت تفاصيل الحكم الدولي في الشهور الماضية، وأكّد النائب في حزب الشعب الجمهوري دينيز يافوز يلماز أن الحكومة التركية “تعمّدت إخفاء” هذه الوثائق عن الرأي العام، واصفاً ما جرى بأنه أحد أكبر الإخفاقات في إدارة ملف سيادي حساس. وبيّن أن الغرامة البالغة 1.471 مليار دولار، تتزايد يومياً بفعل تراكم الفوائد، ما يجعل من هذا الملف ليس مجرد حادثة قانونية، بل عبئاً مالياً واقتصادياً هائلاً.
من أربيل إلى جيهان: خط النفط الذي فجّر النزاع
تعود جذور النزاع إلى فترة ما بعد 2014، حين بدأت تركيا في استيراد النفط مباشرة من إقليم كردستان العراق عبر خط أنابيب يمتد إلى ميناء جيهان التركي، دون الرجوع إلى الحكومة الاتحادية في بغداد. اعتبرت الأخيرة أن ذلك يشكل خرقاً لاتفاقها مع أنقرة، ولجأت إلى التحكيم الدولي الذي حسم الأمر لصالحها بعد سنوات من التقاضي. الحكم أكد أن أنقرة انتهكت السيادة العراقية، وعليها دفع تعويضات كبيرة.
ردود الفعل في الداخل التركي: نحو مواجهة سياسية؟
تصريحات يافوز يلماز لم تقف عند حدود النقد المالي، بل حملت اتهامات سياسية مباشرة، إذ أشار إلى أن الوثائق المرتبطة بهذه القضية “لا يمكن إخفاؤها أو تدميرها”، واعتبر أن هذا الملف سيكون “الطوبة الأولى في جدار محاسبة سياسية وقانونية”، ملمحاً إلى إمكانية إحالة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى المحاكمة أمام المحكمة العليا، باعتبار أن القرار الاستراتيجي بالتعامل مع أربيل تم اتخاذه على أعلى مستويات الحكم.
خط جيهان الجديد… هل يتجاوز مآزق الماضي؟
في مواجهة هذا الإرث الثقيل، تحاول الحكومة التركية إعادة صياغة العلاقة مع بغداد بطريقة جديدة. فقد أعلن وزير الطاقة ألب أرسلان بيرقدار عن إرسال مسودة اتفاق نفطي جديدة، تتجاوز الاتفاق السابق الذي تنتهي صلاحيته في يوليو 2026، وتهدف إلى تشغيل الخط بكامل طاقته دون أزمات قانونية.
ومع ذلك، فإن مراقبين يرون أن الخط الجديد ما زال يواجه خطر الوقوع في الأخطاء نفسها، إذا لم يتم التأسيس لشراكة قانونية واضحة مع بغداد، واحترام السيادة المركزية العراقية، لا سيما في حال توسّع الخط إلى الجنوب حيث السيطرة القوية للفصائل الشيعية المقرّبة من إيران.
معادلة معقدة: بين فرص النفوذ ومخاطر التورّط
رغم المكاسب الجيوسياسية التي قد تحققها تركيا من خلال توسيع دورها في العراق، فإن استمرار الغموض القانوني في ملفات تصدير النفط، إلى جانب المعارضة السياسية الداخلية في أنقرة، قد يفرضان على صانع القرار التركي مراجعة دقيقة لآليات التموضع الجديدة. لا سيما أن الداخل التركي يشهد تصعيداً سياسياً واضحاً حول المسؤولية في هذا الملف، ما قد يضع مستقبل السياسة الخارجية التركية تجاه العراق على المحك.
يُظهر النزاع الدولي حول خط جيهان أن الطموح التركي في العراق لا يمكن أن يكون مستداماً دون إطار قانوني راسخ وتنسيق كامل مع الحكومة الاتحادية في بغداد. كما أن تكلفة التقدّم غير المدروس لم تعد تُقاس فقط بالمال، بل أيضاً بالثقة السياسية الداخلية والمصداقية الإقليمية. ومع اتساع دائرة المحاسبة السياسية في الداخل التركي، تبدو الحاجة ماسة إلى تصحيح المسار قبل أن يتحول الطموح إلى مأزق استراتيجي.

