أثار قرار محكمة الاستئناف التركية بتأييد تبرئة إرمان إكيجي، أحد المتهمين الرئيسيين في تفجير محطة القطارات في أنقرة عام 2015، موجة من الغضب العارم بين أسر الضحايا والمنظمات الحقوقية، الذين وصفوا الحكم بأنه “محاولة للتستر على التواطؤ الرسمي” و”امتداد لحماية منهجية للسلطة السياسية من المساءلة“.
محكمة الاستئناف الإقليمية في أنقرة اعتبرت أن تبرئة المتهم من تهمة “ارتكاب جرائم ضد الإنسانية” تتوافق مع الإجراءات القانونية التركية، ورفضت استئناف محامي الضحايا بحجة أن “ذوي القتلى ليسوا متضررين بشكل مباشر من هذه التهمة”، وبالتالي لا يحق لهم الاعتراض عليها. القرار لم يتطرق نهائيًا إلى مدى انطباق صفة “الجريمة ضد الإنسانية” على الهجوم، ما أثار تساؤلات قانونية وأخلاقية عميقة.
لجنة المحامين: الحكم يتجاهل الحقيقة السياسية ويشرعن الإفلات من العقاب
أصدرت لجنة محامي مجزرة 10 أكتوبر بيانًا شديد اللهجة قالت فيه إن القرار يندرج ضمن “منظومة قضائية ترفض الاعتراف بداعش كمرتكب لجرائم ضد الإنسانية”، وتُصر على تجاهل دور أجهزة الدولة في التمكين السياسي أو الإهمال الأمني.
وأكدت اللجنة أن القضية “لم تكن فقط جريمة إرهابية”، بل جاءت ضمن “مناخ سياسي شجع على تنفيذها”، واتهمت الحكم القضائي بالسعي إلى “طمس المسؤوليات المؤسساتية للدولة، بما في ذلك جهاز الاستخبارات الوطني (MIT)، ووزارة الداخلية، وقوات الشرطة المحلية في ولايات مثل غازي عنتاب وأضنة وكيليس”، حيث تم توثيق تحركات لعناصر داعش دون تدخل فعّال.
تسييس الجريمة؟ التوقيت الحساس وتأثيرات ما قبل الانتخابات
وقع التفجير في صباح 10 أكتوبر 2015 أمام محطة قطارات أنقرة، خلال تظاهرة سلمية دعت إليها نقابات عمالية ومؤسسات مجتمع مدني وحزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد، للمطالبة بوقف الصراع بين الدولة وحزب العمال الكردستاني .
جاء الهجوم قبل أسابيع فقط من الانتخابات العامة المبكرة في نوفمبر 2015، ما دفع بعض المراقبين والضحايا إلى ربط الجريمة بمحاولة خلق مناخ من الفوضى يخدم مصالح سياسية معينة، تحديدًا حزب العدالة والتنمية الحاكم.
محكمة سابقة كانت قد أكدت أن الانتحاريين استهدفوا “النظام الديمقراطي في الجمهورية التركية” وليس فقط المدنيين، في محاولة واضحة لنشر الفوضى والرعب.
تفاصيل المجزرة: 103 قتلى ومئات الجرحى في لحظات
نفّذ انتحاريان من تنظيم داعش التفجير المزدوج، حيث فجّرا نفسيهما في قلب الحشود التي تجمّعت من أجل السلام. أسفر الهجوم عن مقتل 103 أشخاص وإصابة أكثر من500 آخر، بعضهم توفي لاحقًا متأثرًا بجراحه.
كان الانفجار الأقسى في تاريخ تركيا الحديث من حيث عدد الضحايا، وخلّف صدمة مجتمعية لا تزال قائمة، يتجدد صداها كل عام في مراسم إحياء الذكرى التي تنظمها عائلات الضحايا.
الأحكام السابقة: إدانات جزئية وتبرئة مثيرة للجدل
في يوليو 2024، أصدرت المحكمة الجنائية العليا الرابعة في أنقرة أحكامًا بحق 10 متهمين بالسجن لمدد متفاوتة بتهم القتل والانتماء إلى تنظيم إرهابي، لكنها برّأت إرمان إكيجي من تهمة الجرائم ضد الإنسانية، معتبرة أن الهجوم رغم قسوته “لا يُعد هجومًا منهجيًا ضد المدنيين”، وهي الصيغة القانونية التي تُستخدم لتوصيف جرائم ضد الإنسانية.
الضحايا يتجهون إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان
محامو أسر الضحايا أعلنوا نيتهم اللجوء إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، استنادًا إلى المادة الثانية من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تكفل الحق في الحياة وتُلزم الدول بإجراء تحقيق فعال في حالات القتل الجماعي.
يرى المحامون أن القضاء التركي “فشل في توفير وسيلة إنصاف فعّالة” وانتهك حقوق الضحايا عبر تجاهل الأدلة وإسقاط الاتهامات الجوهرية.
جراح لا تندمل: الذكرى السنوية تتحول إلى ساحة للمطالبة بالعدالة
في كل 10 أكتوبر، تتجمع عائلات الضحايا في ساحة محطة القطار، حاملين صور أحبائهم ولافتات تطالب بكشف “الحقيقة الكاملة”، وتذكّر بأن الجريمة لم تكن مجرد تفجير، بل نتيجة لمناخ سياسي مأزوم ومخترق من قبل قوى عنف وتطرف، سُمح لها بالنمو تحت أعين مؤسسات الدولة.
قال أحد أقارب الضحايا: “لم تكن المجزرة مجرد عمل إرهابي، بل نتيجة لمناخ سياسي أتاح لها أن تحدث… واليوم يريدون دفن الضحايا ودفن الحقيقة معًا“.

