تستعد تركيا لمرحلة جديدة من التدخل العسكري والسياسي في سوريا، عبر خطة لتزويد دمشق بمعدات وأسلحة متطورة في إطار اتفاق أمني مرتقب يهدف إلى توسيع نطاق عمليات الجيش التركي ضد الجماعات الكردية المسلحة على طول الحدود المشتركة.
الخطوة التي يجري التحضير لها خلال الأسابيع المقبلة تعكس تغيراً جوهرياً في سياسة أنقرة تجاه سوريا، في ظل التبدلات السياسية التي شهدتها البلاد بعد سقوط نظام بشار الأسد وصعود الرئيس الجديد أحمد الشرع إلى السلطة أواخر عام 2024.
تفاصيل الدعم العسكري: معدات متطورة وتموضع جديد في الشمال السوري
تتضمن الخطة التركية إرسال مركبات مدرعة وطائرات مسيرة ومدفعية وصواريخ وأنظمة دفاع جوي إلى الأراضي السورية، على أن يُنشر معظمها في شمال البلاد بعيداً عن المناطق المتاخمة للحدود الإسرائيلية.
ويهدف هذا الدعم إلى تعزيز قدرات الجيش السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع، الذي يسعى إلى إعادة بناء قواته بعد تدمير جزء كبير من ترسانته العسكرية في الغارات الإسرائيلية التي تلت سقوط النظام السابق.
ويُتوقع أن يُستخدم الدعم التركي لترسيخ الاستقرار في المناطق الشمالية، ومنع وحدات حماية الشعب الكردية (YPG) من توسيع نطاق نفوذها في مناطق قريبة من الحدود التركية.
الشرع بعد الأسد: تحالف جديد مع أنقرة
تُظهر المؤشرات أن العلاقة بين الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع والرئيس التركي رجب طيب أردوغان تشهد تقارباً سياسياً متسارعاً، إذ أجرى الشرع عدة زيارات رسمية إلى أنقرة منذ توليه الحكم في يناير 2025، في إطار مساعيه لإعادة دمج سوريا في التوازنات الإقليمية بعد مرحلة الفوضى التي أعقبت الإطاحة بالأسد.
الشرع، الذي كان يوصف سابقاً بأنه قيادي ميداني في جماعات متشددة قبل أن يتزعم التمرد ضد النظام السابق، يسعى اليوم إلى بناء تحالفات إقليمية جديدة تتيح له السيطرة على مفاصل الدولة السورية وإعادة هيكلة مؤسساتها العسكرية، وهو ما ترى فيه أنقرة فرصة لتنسيق أمني مباشر يحد من التهديدات الكردية على حدودها الجنوبية.
الاتفاق الحدودي الجديد: نحو توسيع نطاق العمليات التركية
تجري حالياً مفاوضات بين أنقرة ودمشق لتحديث الاتفاق الأمني الحدودي الموقع قبل نحو ثلاثة عقود، والذي يتيح لتركيا ملاحقة المسلحين الأكراد داخل الأراضي السورية بعمق محدود لا يتجاوز خمسة كيلومترات.
تسعى أنقرة في النسخة الجديدة من الاتفاق إلى توسيع هذا النطاق إلى ثلاثين كيلومتراً، ما يمنح قواتها حرية أكبر للتحرك في العمق السوري وملاحقة خلايا حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب.
ويأتي هذا التوجه في سياق سياسة تركية مستمرة منذ عام 2016، حيث شنت أنقرة ثلاث عمليات عسكرية كبرى في شمال سوريا استهدفت من خلالها الفصائل الكردية وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بهدف إقامة ما تصفه بـ”منطقة آمنة” على طول حدودها الجنوبية.
المعادلة الكردية: ما بين تفكيك حزب العمال ومستقبل الإدارة الذاتية
تشكل المسألة الكردية الركيزة الأهم في التحرك التركي الجديد. فعلى الرغم من إعلان حزب العمال الكردستاني في مايو الماضي التخلي عن السلاح وحلّ نفسه تنظيمياً، إلا أن عملية السلام ما زالت متعثرة في ظل غموض مصير المقاتلين السابقين ومطالب الأكراد بالحكم الذاتي.
تراهن أنقرة على الرئيس الشرع لضبط التطلعات الكردية في سوريا، خصوصاً في المناطق المحاذية للحدود التركية، وتسعى إلى حرمان قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تضم غالبية كردية وتدعمها واشنطن – من السيطرة على موارد النفط والغاز في الشمال الشرقي، باعتبارها مصدراً محتملاً لتمويل نشاطات حزب العمال الكردستاني.
وفي مارس الماضي، وقعت “قسد” مع حكومة الشرع اتفاقاً إطارياً لدمج وحداتها في الجيش السوري، إلا أن التنفيذ ما زال في مراحله الأولى رغم تأكيد قيادات ميدانية أن العملية تسير بشكل تدريجي.
الدلالات الإقليمية: إعادة رسم خرائط التحالفات بعد سقوط الأسد
يمثل التحرك التركي الجديد تحولاً مهماً في خريطة التحالفات داخل سوريا بعد سقوط نظام الأسد، إذ انتقلت أنقرة من موقع المواجهة مع دمشق إلى محاولة بناء شراكة أمنية معها تقوم على مبدأ المصالح المشتركة في مواجهة التهديد الكردي.
كما يعكس هذا المسار رغبة تركيا في إعادة تأهيل نفوذها في الشمال السوري عبر أدوات سياسية واقتصادية وأمنية، بعد سنوات من العمليات العسكرية المباشرة التي أنهكت قدراتها الميدانية وأثارت انتقادات دولية واسعة.
ويرى مراقبون أن الاتفاق المحتمل بين أنقرة ودمشق قد يعيد تعريف الدور التركي في سوريا من “قوة محتلة” إلى “شريك أمني”، وهو ما قد يسهم في تهدئة التوترات مع موسكو وطهران اللتين تتابعان التطورات عن كثب.
خلاصة المشهد: تركيا توازن بين النفوذ والأمن
تكشف الخطط التركية عن مزيج من الأهداف الاستراتيجية والأمنية؛ فهي تسعى من جهة إلى ضمان أمن حدودها الجنوبية ومن جهة أخرى إلى ترسيخ نفوذها في المشهد السوري الجديد عبر التحالف مع القيادة الجديدة في دمشق.
لكن الطريق نحو تنفيذ الاتفاق يبدو محفوفاً بالتحديات، في ظل الغموض الذي يلف مواقف القوى الكردية والقلق الدولي من تصاعد نفوذ أنقرة في سوريا بعد عقد من الحرب.

