تشهد ألمانيا في الأشهر الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في أعداد المرحّلين إلى خارج أراضيها، في مؤشر يعكس تحوّلاً واضحاً في سياسات برلين تجاه ملف الهجرة واللجوء. ووفق المعطيات الرسمية، فإن تركيا أصبحت الوجهة الأولى لعمليات الترحيل، في وقت تتزايد فيه الانتقادات الحقوقية والسياسية داخل البلاد حول طابع هذه الإجراءات وتداعياتها الإنسانية.
تصاعد غير مسبوق في أعداد الترحيلات
كشفت البيانات الحكومية التي قُدّمت إلى البرلمان الألماني أن نحو سبعة عشر ألفاً وستمئة شخص تم ترحيلهم من ألمانيا منذ بداية العام حتى نهاية سبتمبر، بزيادة تقارب الخُمس مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وتأتي تركيا في مقدمة الدول التي استقبلت المرحّلين، تليها جورجيا، بينما تُظهر الأرقام أن نحو خمس المرحّلين كانوا من الأطفال أو الشباب.
هذا الارتفاع يعكس، بحسب المراقبين، توجهاً واضحاً لدى الحكومة الاتحادية لتشديد سياسات الإقامة وضبط الحدود، ضمن ما تصفه برلين بـ “إصلاح شامل لسياسة الهجرة”، يهدف إلى تسريع البتّ في طلبات اللجوء وتنفيذ قرارات الترحيل دون تأخير.
تركيا في الصدارة: دلالات سياسية وحقوقية
احتلال تركيا المرتبة الأولى كوجهة للمرحلين من ألمانيا يثير تساؤلات متعددة، لاسيما في ظل الاتهامات الحقوقية الموجهة لأنقرة بشأن الملاحقات السياسية التي تستهدف المعارضين والناشطين والأكراد. فقد حذّرت بعض الأصوات داخل البرلمان الألماني من أن عمليات الترحيل نحو تركيا قد تُعرّض المرحّلين لمخاطر حقيقية، خصوصاً في حالات تتعلق بخلفيات سياسية أو نشاطات معارضة.
وتشير هذه المخاوف إلى أن التعاون الأمني والإداري بين برلين وأنقرة في ملف إعادة المهاجرين بات أكثر اتساعاً خلال العام الجاري، في إطار ما تعتبره الحكومة الألمانية “تطبيعاً عملياً” للعلاقات مع تركيا بعد سنوات من التوتر، خاصة في قضايا اللاجئين والحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي.
انتقادات داخلية وتوتر سياسي
داخل ألمانيا، أثار الإعلان عن الأرقام الجديدة موجة انتقادات من أحزاب المعارضة والمنظمات الحقوقية. وقد وصفت المتحدثة باسم حزب اليسار في البرلمان سياسة الحكومة بأنها “مفتوحة بلا حدود نحو رفع أعداد الترحيلات”، معتبرة أن السلطات الاتحادية لم تعد تراعي الاعتبارات الإنسانية أو الوضع الحقوقي في بلدان المقصد.
هذه الانتقادات تأتي في وقت تواجه فيه الحكومة ضغوطاً من أحزاب اليمين واليمين المتطرف التي تطالب بإجراءات أكثر صرامة تجاه المهاجرين. ويبدو أن الائتلاف الحاكم يحاول إيجاد توازن بين هذين الاتجاهين؛ فهو من جهة يسعى إلى تخفيف العبء السياسي الذي تسببه ملفات الهجرة، ومن جهة أخرى يواجه اتهامات من التيارات التقدمية بتبنّي سياسات “غير إنسانية”.
خطة حكومية لتسريع الترحيلات وتوسيع التعاون الأمني
يأتي هذا الارتفاع في أعداد الترحيل ضمن خطة أشمل أعلنتها وزارة الداخلية الألمانية، تهدف إلى تسريع إجراءات الترحيل من خلال تعديلات قانونية وإدارية تشمل تسهيل احتجاز الأشخاص المقرر ترحيلهم وتقليص فترات الانتظار القانونية. كما تعمل برلين على إبرام اتفاقات جديدة مع دول منشأ عدة لتسهيل إعادة مواطنيها، وفي مقدمتها تركيا وجورجيا وأفغانستان.
الخطوة الأكثر إثارة للجدل في هذا السياق كانت إعلان وزير الداخلية نية ألمانيا استئناف عمليات ترحيل المواطنين الأفغان المدانين بجرائم، عبر اتفاق يجري التفاوض عليه مع سلطات طالبان في كابول. وقد أثار هذا الإعلان موجة انتقادات واسعة داخل الأوساط الحقوقية والسياسية، وسط تحذيرات من أن أي تعاون مباشر مع طالبان سيُعتبر “انتهاكاً للمعايير الأوروبية في التعامل مع الأنظمة غير المعترف بها”.
أبعاد إنسانية مقلقة
تثير هذه التطورات تساؤلات حول مصير الأطفال والعائلات المشمولة بالترحيل، إذ تؤكد المنظمات الحقوقية أن واحداً من كل خمسة مرحّلين هم قاصرون أو شباب دون سن الرشد. وتشير تقارير ميدانية إلى أن العديد من العائلات تُرحّل فجأة ودون إشعار مسبق، ما يخلّف آثاراً نفسية واجتماعية بالغة، خاصة لأولئك الذين قضوا سنوات طويلة في ألمانيا وتكيفوا مع بيئتها التعليمية والاجتماعية.
في المقابل، تدافع الحكومة عن سياساتها باعتبارها “تطبيقاً للقانون” وضرورة لضمان فاعلية نظام اللجوء، مؤكدة أنها تلتزم بمعايير حقوق الإنسان وبمبدأ عدم الترحيل إلى مناطق النزاع أو الخطر. غير أن هذه التأكيدات لم تُقنع المعارضين الذين يرون أن الواقع العملي يشهد تجاوزات تتعارض مع الالتزامات الدولية لألمانيا.
تطورات أوروبية موازية
يتزامن التحول الألماني مع توجه أوسع داخل الاتحاد الأوروبي لتشديد سياسات الهجرة. فقد أعلنت المفوضية الأوروبية في الأشهر الأخيرة عن برنامج “العودة الطوعية والمعززة” الذي يهدف إلى تقليص أعداد المقيمين غير النظاميين عبر حوافز مالية وإجرائية، فيما تستمر دول مثل النمسا والدنمارك في اتباع نهج مماثل يقوم على “الاتفاقات الثنائية مع دول المنشأ”.
ويرى محللون أن هذا الاتجاه الأوروبي نحو التشدد يعكس تراجع المزاج السياسي المؤيد لاستقبال اللاجئين، وتزايد تأثير التيارات الشعبوية التي تربط الهجرة بالأمن الداخلي والضغط الاقتصادي.

