تقرير: ياوز أجار
أثارت الصورة التي جمعت زعيم الجريمة المنظمة التركي علاء الدين شاكيجي مع أوغون ساماست، قاتل الصحفي التركي أرمني الأصل هرانت دينك، على طاولة واحدة، ردود فعل غاضبة في الرأي العام.
كان الصحفي التركي المعروف جوهري جوفين نشر مقطع فيديو على قناته على يوتيوب بعنوان “لقاء جمع بين القتلة”، شارك فيه لقطات تُظهر لقاء شاكيجي، الذي خرج من السجن في 2020 بفضل مبادرة خاصة من حزب الحركة القومية، مع أوغون ساماست، الذي خرج من السجن أيضًا العام الماضي بعد قضاء عقوبته ضمن نطاق الإفراج المشروط بسبب “حسن سلوكه”.
وقال جوفين إن شاكيجي ينفذ “مهمة” كلفه بها الزعيم القومي دولت بهجلي، تتمثل في جولات داخلية في تركيا، بهدف قمع أي ردود فعل شعبية قد تنجم عن استراتيجياته الجديدة المتعلقة بدعوته زعيم حزب العمال الكردستاني المسلح عبد الله أوجلان إلى البرلمان ليعلن عن حل حزبه المسلح، وينضم إلى حزب المساواة والديمقراطية للشعوب العامل تحت سقف البرلمان.
وتطرق الكاتب الصحفي الآخر آدم ياوز أرسلان إلى هذه الصورة المثيرة، معتبرًا أن لقاء شاكيجي مع ساماست ونشره للصور هو بمثابة إعلان دعم له وتبني “ماضيه الملطخ بالدماء”، مردفًا بقوله: “على الرغم من أن أردوغان وبهجلي يرفضان أمام الكاميرات وجود خلافات ومشكلات بينهما، غير أن قاعدة حزب الحركة القومية تستعد لأيام صعبة، وتتعاون مع تنظيمات المافيا في الساحة السياسية. أمثال هذه اللقاءات كانت تعقد قديما خلف الأبواب المغلقة وبسرية تامة، لكن الآن لم يعد هناك حاجة لإخفائها”.
وفي ضوء الجدل المتزايد حول هذه الصورة، أصدر أوزير جاكماقتاش، المعروف بقربه من شاكيجي، توضيحًا بخصوص الأمر، مدعيًا أن الاثنين تعرفا على بعضهما البعض وهما في السجن: “أوغون ساماست وعلاء الدين شاكيجي قضيا 5-6 سنوات معًا في نفس السجن. وهذه الصورة التُقطت خلال زيارة شاكجي لمنطقة البحر الأسود في إطار زياراته التقليدية. هذا اللقاء لا يعدو كونه مجرد ترحيب عادي من أحد أبناء المنطقة بشخص ينتمي إلى المنطقة ذاتها. هذه التحية الإنسانية التي قدمها ساماست إلى شاكجي لا تحمل أي أجندة خفية أو رسالة مشفرة. إذا أراد شاكيجي توجيه رسالة، فسيفعل ذلك بشكل مباشر وصريح”.
وعلى الرغم من وضوح الصورة والعلاقة بين ساماست وشاكيجي، إلى جانب شخصيات “قومية” أخرى قديمًا وحديثًا، إلا أن جاكماقتاش لم يرَ أي بأس في تحميل حركة الخدمة مسؤولية اغتيال دينك، حيث زعم أن القاتل ساماست شاب “مخدوع” من قبل هذه الحركة التي استغلت مشاعره القومية البسيطة ودفعته إلى تنفيذ عملية الاغتيال، في مسعًى لتحقيق أهدافها الذاتية، على حد تعبيره. وهذه هي الرواية الرسمية التي حاكها الرئيس رجب طيب أردوغان بعد ظهور فضائح الفساد والرشوة الكبيرة في 2013 ومحاولة الانقلاب الفاشلة في 2016، رغم أنه أشار في عام 2007، حيث وقعت عملية الاغتيال، إلى أن عصابة “أرجنكون” أو ما يطلق عليه “الدولة العميقة” من تقف وراء هذه العملية الدموية في محاولة لإسقاط حكومته، ما يتطلب تسليط الأضواء على هذه الحادثة الصاخبة مرة أخرى اعتبارًا من جذورها التاريخية لالتقاط الخيط من بدايته والوصول إلى النتيجة الصحيحة.
من هو هرانت دينك؟
همزة الوصل بين الأرمن والأتراك
يعتبر هرانت دينك من أهم المثقفين الأتراك (من أصول أرمنية) الذين دافعوا عن ضرورة نقاش الخلافات التاريخية بين الأرمن والأتراك بعيدًا عن الأغراض السياسية، والالتئام حول قواسم إنسانية مشتركة عليا، والتعايش السلمي جنبًا إلى جنب. وهو انطلاقًا من هذه الرؤية بدأ يصدر صحيفة “آغوس” باللغتين الأرمنية والتركية اعتبارًا من 5 أبريل عام 1996، وأراد لها أن تكون “همزة وصل” بين الشعبين الذين عاشا في أمن وسلام طيلة قرون طويلة في ظل الدولة العثمانية بحيث وُصف الأرمن بـ”الملة الصادقة”، أي الأمة الصادقة للدولة العثمانية. وقد كتب دينك لصحيفة “زمان” القريبة من حركة الخدمة أيضًا. ومن اللافت أن صدور صحيفة “آغوس” تزامن مع دعوة فتح الله كولن الراحل، القائد الروحي لحركة الخدمة، للحوار بين أصحاب الثقافات والأديان المختلفة، ولقائه مع بطريرك القسطنطينية المسكوني للأرثوذكس “برثلماوس الأول”. وكان دينك يهدف إلى تحطيم الأحكام المسبقة بين الشعبين بحق بعضهما البعض، ويشكو من انطواء المجتمع الأرمني على ذاته وانغلاقه على الأتراك.
ومع أن دينك كان يدعو تركيا إلى الاعتراف بما سماه الأعمال الإجرامية المرتكبة في فترة الانتقال من العهد العثماني إلى العهد الجمهوري، إلا أنه كان يعارض استغلال هذه القضية في تحقيق مصالح سياسية. ففي مقاله الذي نشره بصحيفة “آغوس” في سبتمبر 2006 رفض دينك مشروع القانون الفرنسي الذي كان يقضي بفرض عقوبات على منكري المجازر في حق الأرمن، انطلاقًا من أن ذلك يتناقض مع مبدأ حرية التعبير عن الآراء من جانب، ومن جانب آخر يختزل قضية قومية كبيرة في ورقة ضغط سياسية تلوح بها الدول الغربية في وجه تركيا عند الحاجة لتبرير موقفها الرافض لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
نظرة سريعة على تصريحات دينك حول هذه القضية قد تكشف السبب الذي جعله هدفًا لـ”القوى الظلامية”، حيث قال في مقطع فيديو نشرته القنوات التركية والمواقع الإلكترونية قبل وفاته: “نحن الأرمن والأتراك شعبان مريضان في علاقاتهما الثنائية. فالأرمن يعيشون حالة صدمة نفسية كبيرة، في حين أن الأتراك يعيشون حالة جنون الارتياب / البارانويا. وكلا الأمرين حالة مرضية لا بد من معالجتها. لكن من الذي سيعالج مرض هذين الشعبين؟ فهل قرار مجلس الشيوخ الفرنسي أم الأمريكي سيعالج مرضنا؟ ما هي الوصفة الطبية الناجعة لمرضنا؟ ومن هو الطبيب الذي سيعالجنا يا ترى؟ بحسب رأيي، الأرمن هم أطباء الأتراك؛ والأتراك هم أطباء الأرمن! فليس هناك أي طبيب آخر أو وصفة طبية أخرى لمرضنا! فالحوار بين الأتراك والأرمن هو العلاج الوحيد لهذا المرض. وأخاطب الشتات الأرمني وأقول لهم: لا تتوقفوا عند الإبادة التركية للأرمن في 1915، لا تربطوا أنفسكم بهذا التاريخ، ولا تطوقوا أنفسكم باعتراف العالم بهذه الإبادة أو رفضها. نعم إن هذه الظاهرة تراجيدية تاريخية عاشها أجدادنا. هناك مقولة جميلة في الأناضول -ونحن أبناء الأناضول- وهي: تحمّل الألم بشرف! من دون إثارة صخب وضجيج. وأنا أقول للعالم: إن اعترافك بالإبادة التي تعرض لها الأرمن أو رفضك لها ليس له أي قيمة في نظري. ألم يقتل الأرمنُ الأتراك أيضًا؟ بلى قد قتلوهم في عام 1918. إني أكره وألعن مفهوم الانتقام! لذا أطلب من الأتراك أن يتعاطفوا مع الأرمن قائلين:’لماذا يا ترى يصر الأرمن على تعرضهم لإبادة جماعية‘”؛ كما أطلب من الأرمن أن يتعاطفوا مع الأتراك ويلتمسوا عذرا لرفضهم الإبادة؛ لأنهم يقولون:’أجدادي لا يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا مثل هذه الجريمة البشعة، لأننا لا يمكننا أن نرتكب مثل هذه الجريمة‘”.
تمهيد الأرضية للاغتيال
بحسب ما كشفته وثائق تحقيقات قضية “تنظيم أرجنكون الإرهابي”، الذي أطلقتها السلطات الأمنية والقضائية في عام 2007، بتوجيه من أردوغان، حيث كان رئيس الوزراء، اتجه هذا التنظيم إلى إثارة موجة قومية ضد الأقليات الموجودة في تركيا منذ عام 2004-2005، بالإضافة إلى إحداث موجة “إسلامية” معادية للأقليات اليهودية والنصرانية. إذ شرعت وسائل الإعلام التابعة لهذا التنظيم، وتلك الموجهة من قبله، في نشر أخبار “مفبركة” تزعم زيادة عدد الكنائس في البلاد وانتشار النصرانية بين المسلمين بشكل غير مسبوق، من أجل تحريض القوميين والإسلاميين على الأقليات الأجنبية والدفع بهم لارتكاب جرائم تلطخ سمعة حكومة أردوغان وتشوه صورة كل من الإسلام وتركيا على الصعيد الدولي، وتعيد له نفوذه السياسي والبيروقراطي السابق في البلاد.
نتيجة هذه العمليات النفسية التي طبقها أرجنكون على الأتراك القوميين المتشددين والإسلاميين المتطرفين المتحمسين، شهدت تركيا مقتل عديد من الشخصيات الأجنبية المنتمية إلى أديان أخرى، بينها رجال الدين اليهودي والمسيحي جراء عشرات الهجمات المسلحة. فمثلاً كانت مجموعة في مدينة مالاطيا شرق تركيا التي تحتضن مواطنين أرمنًا أيضًا هاجمت إحدى دور النشر المختصة في بيع كتب تتعلق بالنصرانية في 18 نيسان 2007 وقتلت ثلاثة من العاملين لديها عن طريق قطع رقابهم، بحجة الدفاع عن الإسلام ومنع انتشار المسيحية في البلاد!
تذكر وثائق قضية “أرجنكون” أن الهدف الرئيس لهذا التنظيم يتمثل في الحيلولة دون انتقال تركيا إلى حقبة ديمقراطية حقيقية ومنعها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، نظرًا لأنه لن يحتفظ بامتيازاته غير القانونية في حال استمرار حكومة أردوغان في تنفيذ المعايير الأوروبية حتى تصبح تركيا دولة القانون التي يتمتع فيها كل مواطن من أي عرق أو قومية أو فكر أو دين كان بحقوق وواجبات متساوية، وتجمع بين الإسلاميين والعلمانيين، والأتراك والأكراد، والقوميين وكل الأقليات على المبادئ الديمقراطية العالمية.
مثقفو تركيا من أمثال دينك كانوا يشكلون أكبر عائق أمام تحقق أهداف تنظيم أرجنكون الذي يستمد حياته من تدمير مصادر القوة للقوميات المختلفة في تركيا من خلال إثارة المشاكل ومشاعر الكراهية والعداء بينها لتسقط السلطة في يده بسهولة. هذا الطابع لأرجنكون قاده دوما إلى اتخاذ كل إنسان أو حركة تدعو إلى السلم والحوار والانفتاح عدوًا لنفسه يجب شيطنته والقضاء عليه بأي وسيلة كانت. وكان دينك يأتي في مقدمة الشخصيات المثقفة التي تنادي بتحكيم العقل والمنطق ولغة السلم والحوار بين الأتراك والأرمن، ما جعله هدفًا لهذا التنظيم. لذا نرى أن وسائل الإعلام المرتبطة بأرجنكون بدأت تثير الموجة القومية التركية الطورانية – تمامًا كما يفعل في هذه الأيام – وتحرض القوميين الأتراك ضده ليجعله لقمة سائغة للشباب القوميين المثارة مشاعرهم الوطنية.
اغتيال أكثر الأرمن سلميًّا
اهتزت تركيا في 19 يناير 2007 بعملية اغتيال “هرانت دينك”، الكاتب الصحفي أرمني الأصل، رئيس تحرير صحيفة “أغوس” الصادرة باللغتين الأرمنية والتركية، وذلك أمام مقر الصحيفة بمدينة إسطنبول على يد “شاب قومي تركي” يدعى “أوغون ساماست” لم يتجاوز عمره 17 عامًا.
تمكنت السلطات الأمنية حينها من إلقاء القبض على ساماست في مدينة “سامسون” الواقعة على منطقة البحر الأسود، المعروفة بتوجهاتها القومية التركية الشديدة، إذ كان يركب حافلةً تتجه إلى طرابزون، وذلك بعد حوالي 32 ساعة فقط من تنفيذه العملية.
مواقف السياسيين
اعتبر رئيس الوزراء آنذاك أردوغان عملية اغتيال دينك ضمن “المساعي الخائنة الرامية إلى إثارة الفتنة والعنف والإضرار بالحياة الديموقراطية في تركيا”، في إشارة منه إلى عمليات عصابة أرجنكون الرامية إلى إحداث الفوضى والبلبلة في البلاد، لاستعادة نفوذها السابق بعدما فقده بفضل “تحقيقات أرجنكون”، متعهدًا بأن حكومته ستبذل كل ما بوسعها للكشف عن ملابسات الجريمة وإزاحة الستار عن الحقيقة بشكل كامل في أقرب وقت.
بينما اتهم رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض في ذلك الوقت دنيز بايكال حكومة أردوغان بالتغاضي عن التهديدات التي وجهها “القوميون الأتراك” إلى دينك، وعدم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع مقتله، على الرغم من وصول بلاغ إلى الأجهزة الأمنية يفيد بوجود مخطط للاغتيال.
في حين رأت الأحزاب الكردية في اغتيال دينك فرصة جيدة لإعادة طرح قضية أو ملفّ “جنايات مجهولة الفاعل” التي ارتكبتها تنظيمات مسلحة ذات صلة بتنظيم أرجنكون وأجنحته المختلفة في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية بحجة مكافحة حزب العمال الكردستاني، لذا طالبت بتوسيع التحقيقات لتشمل كل الاغتيالات السابقة في البلاد.
أما رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي، فزعم أن هدف العملية تقديم ذريعة للقوى الكبرى لمنع تركيا من التدخل العسكري في شمال العراق وتنفيذها عمليات خارجية ضد الانفصاليين الأكراد (حزب العمال الكردستاني) الراغبين في تأسيس دولة كردية في المنطقة. والمفارقة أن الزعيم ذاته يدعو اليوم عبد الله أوجلان إلى البرلمان ليتولى رئاسة الحزب الكردي ويعلن عن حل حزبه المسلح!
في حين اعتبر مراقبون تصريحات بهجلي في ذلك الوقت سعيًا منه للتستر على الدور الذي لعبه بعض القوميين الأتراك المرتبطين بعصابة أرجنكون، الموصوفة بـ”غلاديو تركيا”، فيما يخص التخطيط لاغتيال دينك.
حضر مراسم تشييع جنازة دينك أكثر من 50 ألف شخص، (يرفع بعض المصادر هذا الرقم إلى 100 ألف)، بينهم عدد كبير من الأتراك، الأمر الذي حمل “إيزابيل كورتيان”، التي تعد واحدة من الشخصيات البارزة للشتات الأرمني على القول: “مشاركة الأتراك في جنازة هرانت دينك بهذه الكثرة الكاثرة، واحتضانهم له إلى هذه الدرجة، أحدثت في أنفسنا تأثير هزة صادمة”.
الصلة بين القاتل وأرجنكون
أكد القاتل ساماست أثناء استجوابه أنه ليس نادمًا على اغتياله لدينك، بل تطاول في الأمر معلنًا أنه مستعد لتنفيذ عمليات مماثلة أخرى في سبيل “الدفاع عن الوطن”. ونفى وجود أي صلة له بأشخاص آخرين، زاعمًا أنه نفذ العملية من تلقاء نفسه بدون توجيه من أحد بعد أن شاهد في الصحف والمواقع الإلكترونية أخبارًا تتهم دينك بإهانة “الهوية التركية” التي تعتبرها المادة 301 من قانون العقوبات التركي جريمة.
على الرغم من نفي ساماست صلته بأي تنظيم أو جهة، إلا أن عديدًا من المواقع الإلكترونية نشرت لاحقا صورًا له برفقة رجال شرطة وهم يبتسمون أمام العلم التركي. فضلاً عن ذلك فإنه انتشرت على المواقع أيضًا صور التقطت في مركز الشرطة تجمع القاتل ساماست وعددًا من عناصر الأمن “الفرحين”، وتضمّ لافتةً تحمل قول أتاتورك “مصلحة الوطن أغلى من أن تترك للأقدار لتحدد مسارها”، على حد قوله. كل هذه الفضائح دفعت السلطات إلى فتح تحقيقات بحق الموظفين المعنيين وإبعادهم عن مناصبهم.
“قاتل مأجور”
في حين لفت محامي هرانت دينك إلى أنّ “القاتل ساماست ليس إلا الإصبع الذي ضغط على الزناد”، مشيرًا إلى وجود أيادٍ مظلمة ذات أغراض مشؤومة وراء عملية الاغتيال. ويرى رئيس تحرير صحيفة “بوجون” السابق الكاتب الصحفي المخضرم آدم يافوز أرسلان الذي ألف كتابًا مستقلاً حول هذه الحادثة، أن اغتيال المثقف الأرمني هرانت دينك كان من أحد العمليات الصادمة التي ارتكبها أرجنكون، لتوجيه دفة الحكومة والسياسة من خلال الفوضى والبلبلة، وتشكيل إدراك الرأي العام عبر عمليات غسيل الأدمغة واختراق العقول بصورة محترفة، مشيرًا إلى أن المخططين للعملية أرادوا جني عديد من الثمرات، أهمها تحطيم الجسور بين الشعبين الأرمني والتركي، وإحراج حكومة أردوغان آنذاك في الساحة الدولية، والدفع بتركيا إلى الانغلاق على ذاتها مرة أخرى، ومنعها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي كان بين أهداف حكومة أردوغان في ذلك الوقت.
وكان دينك تعرّض في الشهور السابقة لاغتياله لمضايقات وتهديدات كثيرة بالقتل من قبل القوميين المتطرفين عبر البريد العادي والإلكتروني ورسائل قصيرة على هاتفه الخلوي، وسط نقاشات دارت حينها حول المادة 301 المتعلقة بحماية الهوية التركية. وقد بادرت السلطات القضائية إلى إدانة دينك بإهانة “الهوية التركية” وعاقبته بالحبس ستة أشهر في 2006، مع وقف التنفيذ، مما ساعد عصابة أرجنكون في أن تجعله هدفًا مفتوحًا للشباب القوميين المتحمسين. يشار في هذا السياق إلى أن الجنرال ولي كوجوك، الذي حكم عليه فيما بعد في إطار قضية أرجنكون، حضر المحكمة أثناء إحدى جلسات محاكمة دينك بتهمة الإساءة إلى الهوية التركية ووجه له تهديدات علنية.
وأفاد القاتل ساماست أثناء استجوابه أنه خطط لعملية الاغتيال بتعليمات من المدعو “ياسين خيال” المنتمي إلى التيار القومي أيضًا. وكان خيال قد تورط عام 2004 في حادثة إلقاء قنبلة على مطعم بمدينة طرابزون أسفر عن جرح ستة أشخاص. وكشفت التقارير الأمنية في إطار القضية أنه تواصل مع ساماست في 19 يناير 2007، وزرع في دماغه فكرة اغتيال دينك، وزوده بالسلاح والرصاص، وقدم له دعمًا ماليًّا. واعترف خيال بعد الاستجواب معه بأنه خطط للعملية بالتعاون مع “أرهان تونجيل” المعروف باسمه الحركي “محمد كورت”، والذي تبين أنه عمل “مخبرًا” لمديرية أمن إسطنبول فترة من الزمان.
انطلاق القضية
بدأت قضية اغتيال دينك بمحاكمة 18 متهمًا في الوهلة الأولى، بينهم 12 شخصًا منهم خلف القضبان، وارتفع هذا الرقم إلى 20 شخصًا بعد إعداد مذكرات اتهام إضافية بين أعوام 2008 و2009.
بعد مرور حوالي 5 سنوات على بدء المحاكمة، أبدى “حكمت أوسطا”؛ المدعي العام المشرف على قضية اغتيال دينك رأيه في سبتمبر 2011 استنادًا إلى الأدلة المتوفرة لديه قائلاً: “لقد توصلنا إلى أن عملية اغتيال دينك ليست من عمل بضعة شباب قوميين متحمسين، بل يقف وراءها إحدى خلايا تنظيم أرجنكون الإرهابي في مدينة طرابزون بقيادة كل من أرهان تونجيل وياسين خيال الذين لفتا الانتباه بعملهما في سرية تامة ومراعاتهما لقواعد الخصوصية والتسلسل الهرمي التنظيمي”.
وعاقبت المحكمة في يوليو 2011 القاتل ساماست (17 عامًا) بالحبس لمدة 22 عامًا و10 أشهر فقط لعدم وصوله إلى السن القانوني للأهلية، بتهمة “القتل العمد” و”حيازة سلاح غير مرخص”، بينما لم ترَ المحكمة عملية الاغتيال “جريمة منظمة”، وقامت بتبرئة ساحة جميع المتهمين في إطار القضية من تهمة “عضوية تنظيم إرهابي”! وكذلك أنزلت المحكمة عقوبة الحبس المؤبد على ياسين خيال بتهمة “التحريض على القتل العمد”، في حين قضت بحبس أرهان تونجيل 10 سنوات و6 أشهر والإفراج عنه في الوقت ذاته آخذًا بنظر الاعتبار السنوات التي قضاها في السجن.
وعلى الرغم من أن أردوغان وعد بالتوسع في التحقيقات وكشف الستار عن المجرمين الحقيقيين في أقصر وقت ممكن، إلا أن قرار تبرئة المتهمين من تهمة عضوية تنظيم إرهابي أصاب الرأي العام وعائلة دينك بالصدمة، وأثار المخاوف من إغلاق القضية وطمس الأدلة والخيوط التي تؤدى إلى تنظيم أرجنكون. لذا قالت محامية عائلة دينك “فتحية تشاتين” للصحفيين عقب هذا القرار: “لقد مر على عملية الاغتيال 5 سنوات، لو كان دينك حيًّا لقال: إنهم يستهزؤون بنا؟ يبدو أنهم أعدوا لنا المفاجئة الكبرى في نهاية القضية؛ إذ يزعمون أن هذه العملية ليست جريمة منظمة ولا يقف وراءها تنظيم بل ارتكبها بضعة من الشباب المتحمسين. فعلاً لم نكن نتوقع أن يوصلوا الأمر إلى هذا الحد”.
وكانت راكيل دينك؛ زوجة دينك، قالت في خطاب ألقته في مراسم الجنازة: “القاتل يبلغ من العمر 17 عامًا.. مهما كان عمره أو هويته فإننا نعلم أنه كان طفلاً في وقت من الأوقات، لذا ينبغي علينا أن نحاسب هذا الظلام الذي يخرج من الأطفال قتلة”.
العائلة تثور على محاولات التعتيم
أسرة دينك طعنت في القرار لدى المحكمة العليا، ووافقت عليه الدائرة التاسعة للمحكمة في مايو 2013، وألغت حكم البراءة عن المتهمين من تهمة عضوية تنظيم إرهابي، وطالبت بإعادة محاكمتهم مجددا بتهمة عضوية تنظيم “إجرامي” بدلا من تنظيم “إرهابي”، بالإضافة إلى توسيع دائرة التحقيقات. وتبين بعد التحقيقات الجديدة أن المخبر أرهان تونجيل أبلغ مديرية أمن طرابزون باستعداد وتخطيط ياسين خيال لاغتيال دينك، وأن أمن طرابزون زود بهذه المعلومة كلا من مديرية الأمن العام ومديرية أمن إسطنبول.
وعلى خلفية هذه التطورات وشكوى عائلة دينك أطلقت وزارة الداخلية حينها تحقيقًا مباشرًا حول المسؤولين المقصرين في واجباتهم ليشمل التحقيقات 86 شخصًا، 30 منهم خلف القضبان، بمن فيهم قائد قوات الدرك في طرابزون العقيد “علي أوز” والشرطيين الذين التقطوا صورًا مع القاتل ساماست أمام العلم التركي عندما ألقي القبض عليه في مدينة سامسون، إلا أن السلطات فشلت لفترة طويلة في استصدار تصريح بالتحقيق مع بعض كبار المسئولين. وتضمنت قائمة الأسماء المطلوبة معاقبتها في لائحة الاتهام أسماء كبار مسئولي الأمن في تلك الفترة بينهم: مدير أمن إسطنبول “جلال الدين جراح”، ومدير شعبة الاستخبارات “أنجين دينج” الذي يتولى حاليا منصب مدير أمن العاصمة أنقرة (!)، ومدير أمن طرابزون “رشاد آلتاي” ونائب مدير شعبة الاستخبارات “حسن دورموش أوغلو” وغيرهم. وجميع هؤلاء المسؤولين معروفون بتوجهاتهم القومية. لكن المحكمة طالبت بإخلاء سبيل مجموعة من الموظفين الأمنيين المقصرين في واجباتهم عام 2017 لينخفض بعده عدد المتهمين في إطار القضية إلى 16 شخصًا فقط.
أردوغان يستغل القضية
كشفت تصريحات الصحفي والنائب البرلماني عن حزب الشعب الجمهوري باريش ياركاداش في ديسمبر 2014 خلال برنامج على قناة “خلق تي في” أن أردوغان وضع خطة شاملة لتحميل حركة الخدمة مسئولية كل الجرائم المرتكبة طيلة فترة حكمه، في محاولة منه للتخلص من فضيحة تورط حكومته في الفساد والرشوة في 2013 من جانب؛ ولإشاعة مناخ من الخوف العام في البلاد قبيل الانتخابات من جانب آخر.
وقد واكبت هذه التصريحات الذكرى السنوية الأولى لانطلاق تحقيقات الفساد المذكورة، حيث بدأ أردوغان حملته التي استهدفت حركة الخدمة من خلال توقيف كل من رئيسي مجموعتي “سامانيولو” و”فضاء” الإعلاميتين هدايت كاراجا وأكرم دومانلي، وعدد من قيادات الأمن، بتهمة نصب مؤامرة ضد أعضاء تنظيم “تحشية” المرتبط بتنظيم القاعدة.
وتابع ياركاداش في تصريحاته أن أردوغان قرر القضاء على الخدمة من خلال اتهامها بأنها وراء عديد من جرائم القتل التي قيدت ضد مجهول، ولم يعثر على مرتكبها في تاريخ تركيا الحديث، كاغتيال الصحفي أرمني الأصل هرانت دينك. وهذا هو ما وقع بالفعل، حيث بدأ يتهم هذه الحركة بالوقوف وراء جملة من الجرائم التي غيرت وجهة السياسة في تركيا، وعلى رأسها اغتيال دينك، وذلك بعد أن اتهمها باستغلال تحقيقات الفساد المذكورة لإسقاط حكومته.
وقد جاء الرد على مزاعم أردوغان من صحيفة “آغوست” ذاتها، التي كان دينك رئيسَ تحريرها، في خبر نشرته في 11 ديسمبر 2014: “السلطة الحاكمة في تركيا بقيادة أردوغان ترى قضية اغتيال دينك سلاحًا يمكن استخدامه ضد حركة الخدمة. هذه الخطوة ليست إلا خطة خبيثة تجعل إحدى أكبر قضايا العدل في هذه البلاد أداة لتحقيق مصالح سياسية”، على حد تعبيره.
مزاعم أردوغان المخالفة للوقائع والوثائق الرسمية التي انكشفت في إطار قضيتي أرجنكون وهرانت دينك تحولت إلى قضية بعدما اتهم حركة الخدمة بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016. وأصدرت المحكمة الجنائية الرابعة عشرة في إسطنبول في 26 مارس 2021، حكمها في القضية التي شملت 78 متهمًا، من بينهم 6 قيد الاحتجاز و13 هاربًا. تضمنت قائمة المتهمين فتح الله كولن، والمدعي العام السابق زكريا أوز، الذي أشعل فتيل تحقيقات أرجنكون، بالإضافة إلى صحفيين وأفراد من الدرك وضباط شرطة سابقين.
ضياع فرصة ذهبية
كانت قضية دينك فرصة ذهبية لمحاكمة عناصر تنظيم أرجنكون الذي يعتبر نفسه “الدولة العميقة” في تركيا وممارساته غير القانونية منذ سنين. وعلى الرغم من أن أردوغان تعهد على نفسه التوسع في التحقيقات وكشف القناع عن بصمات البؤر العميقة التي تقف وراء مثل هذه العمليات المحرجة لتركيا في الداخل والخارج، إلا أن هذه القضية كسابقاتها من القضايا المتعلقة بأرجنكون تم تمويهها وتضليلها وتوجيهها إلى نقاط لا صلة لها بجوهر الموضوع. الكاتب الصحفي آدم ياوز أرسلان المذكور أعلاه، وهو الذي ألف أشمل كتاب عن اغتيال دينك كشف فيه بالأدلة والوثائق عن الملابسات السابقة واللاحقة للعملية، أشار إلى نقطة مهمة خلال حوار تلفزيوني: “إن أيادي خفية سعت إلى حصر المجرمين في القاتل ساماست وصلاته المحدودة فقط، ووجهت الرأي العام للتركيز على قصور بعض المسؤولين الأمنيين في اتخاذ تدابير كفيلة بحماية دينك رغم البلاغ الذي وصلهم، وذلك للتكتم على المجرمين الحقيقيين وإحفاء بصمات تنظيم أرجنكون”.
في نهاية المطاف استطاع عناصر الجناح القومي التركي “اليميني” لتنظيم أرجنكون الهروبَ من قبضة العدل رغم ارتكابهم أحد أكبر عمليات الاغتيال صدمةً طيلة العهد الجمهوري في وضح النهار. فمع أن المجرمين الذين قتلوا دينك كانوا معروفين بأسمائهم وهوياتهم، وأن السلطات تعهدت على نفسها بالاستمرار في التحقيقات مهما توسعت، إلا أن أذرع أرجنكون الطويلة عرقلت مرة أخرى تكلّل جهود جهاز القضاء الرامية إلى الكشف عن أبعاد هذا التنظيم بالنجاح.
ومن المثير أن أردوغان ذا “التوجه الإسلامي” تخلى عن حلفائه القدماء من الديمقراطيين والليبراليين، من السياسيين والمدنيين، رغم أنهم لعبوا الدور الأساسي في تلميع صورة حزب العدالة والتنمية في الداخل التركي والعالم خلال العقد الأول من حكمه، وعقد تحالفًا آخر لا يزال مستمرا إلى اليوم بعد ظهور فضائح الفساد والرشوة في 2013 مع كل من حزب الحركة القومية وزعيمه دولت بهجلي، الذي يمثل الجناح القومي التركي “اليميني” لأرجنكون، وحزب الوطن وزعيمه دوغو برينجك، الذي يمثل الجناح القومي التركي “العلماني” لهذا التنظيم، رغم أن كلا من هذه الطوائف الثلاث سبق أن وجه لبعضها البعض أغلظ الألفاظ وأشنع الاتهامات.