تقرير: ياوز أجار
أعلن موقع رسمي تابع لحركة الخدمة ارتحال فتح الله كولن، الذي تستوحي الحركة فكره، إلى الدار الآخرة، بعد فترة من العلاج في المستشفى.
وقال البيان الذي أصدره الموقع الرسمي لفتح الله كولن (Herkul Name) “لقد انتقل اليوم (20 أكتوبر 2024) إلى رحمة الله تعالى فضيلة الأستاذ فتح الله كولن، الذي قضى كل لحظة من حياته في خدمة الدين الإسلامي الحنيف والإنسانية”.
وتطرق البيان إلى سبب وفاته قائلا: “لقد انتقل أستاذنا إلى رحمة الله تعالى يوم 20 أكتوبر 2024 في الساعة 21:20 مساءً بعد فترة من العلاج في المستشفى. وسوف يصدر الأطباء بيانًا حول تفاصيل فترة علاجه في الساعات القادمة”.
يذكر أن فتح الله كولن قاد حركة الخدمة فكريا، مستلهمًا فكر العلامة بديع الزمان سعيد النورسي، وترأس “وقف الكتاب والصحفيين” فخريا، وخطف الأضواء بدعوته إلى الحوار والتعايش السلمي بين معتنقي ديانات وحضارات مختلفة.
ومع أن كولن رفض مبدئيا الانخراط في السياسة بصورة مباشرة، غير أنه نصح بإنشاء وسائل إعلام مقروءة ومسموعة ومرئية، وممارسة حقها في الرقابة على أداء الحكومة والهيئات الأخرى من جانب، وتقديم حلول مدنية لمشاكل وطنية وإنسانية واجتماعية من جانب آخر.
وقد ألف كولن عشرات الكتب حول قضايا دينية وإنسانية واجتماعية وعالمية مختلفة، ولعب دورا محوريا في تأسيس مجلات علمية وافتتاح مدارس وجامعات ومؤسسات اقتصادية، وتنفيذ مشاريع ثقافية وحضارية على مستوى الوطن والعالم.
كما أطلق كولن بعد عام 1990 ما سمي بـ”حركة الحوار والتفاهم بين معتنقي الأديان والأفكار الأخرى”، داعيًا إلى المرونة والبعد عن التعصب والتزمت والتطرف، واحتضان كل الأقليات الموجودة في تركيا، بما فيهم اليهود والنصارى، والتقى في هذا الإطار مع البابا يوحنا الثاني في الفاتيكان عام 1998.
دعوة كولن وجدت خلال مدة قصيرة صداها في تركيا أولاً وفي العالم لاحقًا، حيث استطاع جمع المثقفين اليمينيين واليساريين والإسلاميين والعلمانيين من الأتراك والأكراد والقوميات الأخرى تحت مظلة واحدة، وذلك من خلال الأنشطة التي نظمها “وقف الكتاب الصحفيين” المـذكور.
وبدأت حركة الخدمة، التي استوحى فكر كولن، الانفتاح على العالم في التسعينات من القرن الماضي من خلال مئات المؤسسات التعليمية والاقتصادية، وخاصة الجمهوريات التركية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي.
وكان الرئيس التركي الأسبق الراحل طرغوت أوزال، الذي تبنى “سياسات محافظة”؛ ورئيس الوزراء الأسبق الراحل بولند أجاويد، المنحدر من “التيار اليساري” وزعيم حزب الاتحاد الكبير محسن يازيجي أوغلو المنتمي إلى “التيار القومي” في مقدمة السياسيين الذين قدموا دعمهم علنًا لفتح الله كولن ومشاريع حركة الخدمة، حيث أجرى كل منهم زيارات إلى دول وسط آسيا المنفصلة عن روسيا، وأكدوا لجميع رؤساء الحكومات الذين التقوا بهم ثقتهم بحركة الخدمة ومشاريعها.
مشاريع كولن في مجالات مختلفة أثارت حفيظة بعض “الجنرالات العسكريين” المنتمين إلى “التيار القومي الكمالي”، الذين استغلوا نفوذهم في المؤسسة العسكرية ونفذوا ما سمي بـ”الانقلاب العسكري ما بعد الحداثي” في 1997، ومارسوا ضغوطات كبيرة على كولن والمؤسسات المرتبطة به.
حدة الجنرالات “القوميين الكماليين” لم تهدأ إلا بعد مغادرة كولن تركيا إلى الولايات المتحدة في 1999 لأسباب صحية، ليظل هناك حتى وفاته اليوم.
وعندما وصل حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان قدم كولن ما أطلق عليه الكتاب الذين يسيرون معه في الخط الفكري ذاته “الدعم المشروط”، حيث قالوا إنهم دعموه انطلاقًا من تعهداته الخاصة بـ”دمقرطة تركيا” و”ضمها إلى الاتحاد الأوروبي” و”تطوير البلاد من حيث حقوق الإنسان”، ومن ثم سحبوا منه هذا الدعم عندما بدأ أردوغان نهج سياسة قائم على المصلحة الصرفة أخلاقيًّا، والتسلطية إدارايًّا، منذ ظهور فضائح الفساد والرشوة في 2013، على حد تعبيرهم.
بعد عقد كامل من التحالف “المبدئي” بين فتح الله كولن وحزب العدالة والتنمية، بدأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يستهدف شخصيا منذ عام 2013 أتباع حركة كولن، زاعمًا أن العمليات الأمنية والقضائية التي نفذت في ذلك العام ضد شبكة فساد تضم أبناء لوزراء في حكومته نفذها أفراد أمن على صلة بالحركة، أو “الكيان الموازي”، وفق أردوغان، وذلك من خلال تلفيق أدلة، وهو الأمر الذي نفته الحركة.
فقد رفض كولن جميع مزاعم “الكيان الموازي” وتحدى أردوغان من خلال محاضرة ألقاها على محبيه في 21 ديسمبر 2013 قال فيها: “سأقول كلامًا لم أقله من قبل أبداً.. إني لا أعرف المدعين العامين الذين تعقبوا مرتكبي الأفعال السيئة من أبناء الوزراء، ولا أعرف واحدًا بالألف منهم، غير أن البعض ينسب القائمين على هذه الحملة إلينا وحركة الخدمة، ويرانا متعاونين فيها.. لذلك أنا أقول ولا أستثني نفسي: إذا كان من قام بهذه الحملة قد ارتكب أمرًا مخالفًا لروح الدين الإسلامي، ومخالفًا لمبادئ القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وللقوانين الحديثة، ومنافيًا للديمقراطية، فأسال الله عز وجل أن يخسف بنا وبهم الأرض، وأن يملأ بيوتنا وبيوتهم نارا، وأن يهدم على الجميع جدرانهم. ولكن إذا كان الأمر خلاف ذلك، بمعنى أن يرى البعضُ اللصوصَ ويتركونهم ويطلقون سراحهم، ويهاجمون في نفس الوقت من يرشد عليهم ويكشف الغطاء عنهم، ويغمضون أعينهم عن الجريمة، ويتهمون الأناس الأبرياء بارتكابها من أجل تشويه سمعتهم، فأسال المولى عز وجل أن يحرق عليهم بيوتهم، وأن يزلزلهم ويشتِّت شملهم ويمزق وحدتهم وأن لا يبلغهم الأمل”.
تمكن أردوغان من تصفية “غير المرغوبين فيهم” في أجهزة الاستخبارات والأمن والقضاء وإحلال كوادره فيها، من خلال الحملات “المضادة” التي استهدفت أعضاء “الكيان الموازي”، ومن ثم حاول استصدار قرار من جميع أجهزة الدولة يصنف حركة الخدمة “تنظيماً إرهابيًّا”.
إلا أن أردوغان لم يستطع أن ينفذ تلك الحملات المضادة في المؤسسة العسكرية، حيث قال رئيس الأكان في ذلك الوقت نجدت أوزيل بشأن الضغوط عليه فيما يتعلق بتصفية أعضاء الكيان الموازي في الجيش: “القوات المسلحة لا تتحرك إلا في إطار الأدلة والوثائق. لقد طالبنا كلاًّ من الأمن والاستخبارات بتزويدنا بمعلومات في هذا الموضوع، غير أنه لم تصلْنَا أية معلومات عنهما، فلا يمكننا إطلاق عمليات بناءً على بلاغات غير موقعة ولا يعرف مصدرها. نحن نقوم بما يلزم في إطار القوانين”.
لكن لم ييأس أردوغان واستمر في البحث عن طرق لإقناع الجيش أو إجباره على اتخاذ موقف صارم مما سماه الكيان الموازي. ففي الأيام التي سبقت اجتماع أعضاء مجلس الأمن القومي 31 نوفمبر 2014، أكد أردوغان أنه سيتم النظر في أولويات وتهديدات الأمن القومي وتحديدها من جديد، وأن الكيان الموازي سيتم ضمّه إلى “قائمة المنظمات المهددة للأمن القومي”، وذلك تمهيدًا لإعلانه تنظيمًا إرهابيًّا في وقت لاحق.
غير أنه عندما نُشر البيان الختامي لاجتماع الأمن القومي، الذي يتكون معظم أعضائه من العسكريين، تحطمت آمال أردوغان، إذ لم يتضمن البيان أي إشارة إلى “حركة الخدمة” أو “الكيان الموازي”، وإنما ورد فيه عبارة “كيانات غير شرعية تحت غطاء شرعي” بصيغة الجمع، العبارة التي كانت تشير حينها عامة إلى اتحاد المجتمعات الكردستانية والهيئة الإدارية العليا لحزب العمال الكردستاني، الذي عمل على تشكيل كيانات موازية للدولة في المدن الشرقية والجنوبية الشرقية من خلال تأسيس محاكم خاصة به وإجراء محاكمات بعيدًا عن المحاكم الرسمية.
وأفادت الأنباء أن أعضاء مجلس الأمن القومي العسكريون، وكذلك رئيس وزراء تلك الفترة أحمد داود أوغلو، فضلوا استخدام عبارة “الكيانات الموازية” في البيان، رافضين عبارتي “الكيان الموازي” أو “حركة الخدمة” اللتين كان يصر أردوغان على ذكر أحدهما على الأقل في البيان، مما دل على تباين في الآراء بين أردوغان وداود أوغلو من جانب، وبين أردوغان والجيش من جانب آخر.
واعترف داود أوغلو في تصريحات صادمة أدلى بها في 2019 بأنه كان يجب إقالته من منصب رئاسة الوزراء ورئاسة حزب العدالة والتنمية حتى يمكن تنفيذ عديد من المشاريع، وذكر من بينها “انقلاب 2016” الذي اتهم أردوغان حركة الخدمة بالوقوف وراءه.
أخيرًا تمكن أردوغان من إعلان حركة الخدمة تنظيما إرهابيا عقب وقوع “الانقلاب الفاشل” في 2016، حيث اتهمها بالوقوف وراء هذا التحرك، وشرع في تضييق الخناق على كل من له صلة بها، في الداخل والخارج، مما أسفر عن مقتل عديد منهم، واعتقال عشرات الآلاف رجالا ونساء، واختطاف قسم منهم من خارج البلاد.
في حين نفت الحركة أي علاقة لها بمحاولة الانقلاب، ودعت أردوغان لتشكيل لجنة دولية لتقصي حقائق ما حدث في ليلة “الانقلاب الفاشل”، إلا أن الأخير لم يستجب لهذه الدعوة حتى اليوم.
واعتبرت حركة كولن أحداث ليلة الانقلاب الفاشل من قبيل عمليات “الراية المُزيفة” (false flag) يقف وراءها أردوغان نفسه لينجح في وصم الحركة بالإرهابية بعد أن فشل في ذلك، وتصفية الجنرالات المعارضين لمشاريعه العسكرية في سوريا وعموم المنطقة، بحسب رأيها.
يذكر أن مصطلح “الراية المزيفة” يُستخدم لوصف عمليات سرية تُنفذها جهة معينة بحيث يتم إخفاء الهوية الحقيقية للمنفذين وتوجيه التهمة لمجموعة أو دولة أخرى، بهدف خلق انطباع بأن الطرف الذي تم اتهامه زورًا هو من قام بالعمل، وذلك لتحقيق أهداف عسكرية أو سياسية أو استخباراتية. تُستخدم هذه الاستراتيجية في الغالب للتأثير على الرأي العام أو لتبرير أفعال وعمليات معينة لا يسمح لها الدستور والقوانين ولا يسوغها الجمهور في العادة.
ورغم عديد من الأحكام الصادرة من المحاكم الدولية، تستمر السلطات التركية في تنفيذ اعتقالات وملاحقات جماعية يوميا ضد المتعاطفين مع حركة كولن.