تناول المحلل السياسي التركي البارز، البروفيسور ممتازر توركونه، في مقابلة أجراها معه الصحفي روشن شاكر عبر قناته على موقع يوتيوب، أبعاد الحل الديمقراطي للقضية الكردية في تركيا، منطلقًا من رؤية تركز على ضرورة ترسيخ الديمقراطية الدستورية باعتبارها الضمانة الأساسية لحقوق الأقليات، والركيزة التي لا غنى عنها للحفاظ على وحدة الدولة واستقرارها على المدى الطويل.
أولًا: الديمقراطية الدستورية كمدخل أساسي للحل
أشار توركونه إلى أن القضية الكردية لا يمكن حلها عبر المسارات الأمنية أو السياسية الضيقة، بل تتطلب تأسيس ديمقراطية دستورية حقيقية تُكفل فيها الحقوق الأساسية للأقليات، لا سيما تلك التي تمثل نسبة صغيرة من السكان كالمكون الكردي. وأوضح أن الديمقراطية الدستورية، بخلاف الديمقراطية الصورية، تُعنى بحماية حقوق الفئات غير الممثلة في دوائر السلطة، وتسعى إلى ترسيخ مبدأ الكرامة الإنسانية والشعور بالأمان، بعيدًا عن منطق الهيمنة والانتهاك.
وشدد على أن أي حل خارج إطار الديمقراطية وسيادة القانون سيكون مآله الفشل، معتبرًا أن الدمج السياسي والاجتماعي للأكراد في تركيا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال مسار ديمقراطي قانوني شامل يرسخ قيم التعددية والمواطنة.
ثانيًا: صراع بنيوي بين “الحكومة” و”الدولة”
في تحليله للبنية السياسية التركية، لفت توركونه إلى وجود ما وصفه بـ”التوتر البنيوي” بين الحكومة من جهة، و”الدولة” أو “النظام المؤسس” من جهة أخرى. وبيّن أن الحكومة، بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، تميل إلى توظيف السلطة لتعزيز هيمنتها وضمان استمراريتها السياسية، بينما تسعى “الدولة” – الممثلة، في رأيه، بالزعيم القومي دولت بهجلي – إلى الحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها فوق الحسابات الحزبية اليومية.
واعتبر أن هذا الصراع يعكس تناقضًا هيكليًا بين إرادة الحكومة في تقليص دور القانون والديمقراطية لتحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأمد، في مقابل حاجة الدولة إلى ترسيخ هذه القيم لضمان الاستقرار الاستراتيجي طويل الأمد.
ثالثًا: الزعامات السياسية ودورها في تجاوز الأزمة
أشاد توركونه بدور زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، مشيرًا إلى أنه يتصرف بوصفه “رجل دولة” لا “رجل سياسة”. واعتبر أن بهجلي يمثل نموذجًا قياديًا يُقدّم مصالح الدولة على حساب الاعتبارات الحزبية الضيقة، ويدعم الحلول الديمقراطية للقضية الكردية من منطلق استراتيجي. هذا التقييم، في نظر توركونه، يعكس تماهيًا بين رؤية “الدولة” ومشروع الحل الديمقراطي طويل الأمد.
رابعًا: الانتخابات المبكرة كفرصة لإعادة التموضع
رأى توركونه أن الدعوة إلى انتخابات مبكرة قد تكون مخرجًا مناسبًا للأزمة السياسية والاقتصادية التي تشهدها البلاد، موضحًا أن مثل هذا القرار يمكن أن يعيد تشكيل المشهد السياسي، ويُعيد الثقة بين المواطن والنظام السياسي، كما يبعث برسائل إيجابية للأسواق الدولية.
وأكد أن الإعلان عن انتخابات مبكرة، حتى من دون إجرائها، من شأنه أن يخفض مؤشرات المخاطر الاقتصادية مثل نقاط الـCDS (مبادلة مخاطر الائتمان)، ويعزز ثقة الاتحاد الأوروبي بتركيا، مما يساهم في خلق بيئة سياسية واقتصادية أكثر ملاءمة لحل الملفات المعقدة، وعلى رأسها القضية الكردية.
خامسًا: تحولات داخلية في مواقف الحكومة
زعم توركونه أن الحكومة التركية باتت، مؤخرًا، أكثر تقبّلًا لأولويات الدولة ومصالحها الاستراتيجية، وهو ما يمثل، برأيه، تحولًا مهمًا في كيفية تعاطي الحكومة مع التحديات الداخلية والخارجية. واعتبر أن هذه المرحلة الانتقالية، التي كان بهجلي أحد مهندسيها، جاءت بعد فشل ما أسماها “عملية 19 مارس”، في إشارة إلى اعتقال أكرم إمام أوغلو، والتي شكّلت نقطة تحول في استراتيجية الحكومة.
سادسًا: تحولات استراتيجية في السياسة الخارجية
تطرّق توركونه إلى التغيّرات التي طرأت على توجهات السياسة الخارجية التركية، مشيرًا إلى أن تركيا باتت تواجه خيارًا استراتيجيًا حاسمًا بين الانحياز للمسار الأوروبي أو البقاء ضمن دائرة التأثير الأمريكي. ورأى أن التوجه السابق نحو الولايات المتحدة بدأ يفقد زخمه لصالح خيار الانفتاح على أوروبا، بما يتماشى مع المصالح العليا للدولة، لا سيما في ظل تعقيد المشهد الجيوسياسي.
سابعًا: سوريا كنقطة ارتكاز في الاستراتيجية الإقليمية
اعتبر توركونه أن الأزمة السورية تمثل واحدة من أكثر القضايا حساسية في السياسة الخارجية التركية. وأوضح أن أنقرة تقف أمام خيارين استراتيجيين: إما الحفاظ على الفوضى والاضطراب، وهو ما تدعمه بعض القوى الإقليمية وعلى رأسها إسرائيل، أو التوجه نحو الاستقرار والتنظيم، وهو الخيار الذي تسانده بريطانيا والدول الأوروبية.
ورغم الدور البارز الذي تلعبه الولايات المتحدة في الملف السوري، شدد توركونه على أن بريطانيا تمثل القوة الأكثر تأثيرًا في دعم مسار الاستقرار، ما يجعل التعاون التركي البريطاني أكثر ضرورة في هذا السياق، خاصة في ظل تعقيد العلاقات مع واشنطن وتناقض المصالح مع تل أبيب.
ثامنًا: التوترات بين إسرائيل والولايات المتحدة وتأثيرها على تركيا
رصد توركونه تداعيات التوترات الداخلية في إسرائيل، خاصة بين حكومة نتنياهو اليمينية والنخب السياسية المختلفة، على السياسات الإقليمية التركية. وأشار إلى أن هذا التصادم في المصالح يعقّد قدرة تركيا على التفاعل مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة، داعيًا أنقرة إلى اتخاذ مواقف محسوبة تستند إلى رؤية استراتيجية تراعي التغيرات الجارية في المنطقة.
تاسعًا: الأزمة السورية وأولوية الأمن القومي
أوضح توركونه أن استقرار سوريا يمثل عنصرًا حاسمًا في معادلة الأمن القومي التركي، وأن استمرار الفوضى سيقوّض الاستقرار الداخلي لتركيا. ودعا الحكومة التركية إلى تبني مواقف غير تقليدية تتماشى مع المصلحة القومية، مشيرًا إلى أن الدور البريطاني في دعم الاستقرار يمكن أن يشكل ركيزة مهمة في هذا الاتجاه.
عاشرًا: الصراع داخل المجتمع اليهودي وأثره على المنطقة
في ختام تحليله، تناول توركونه الصراع الداخلي بين المجموعات اليهودية العالمية، وأثره على السياسة الإسرائيلية، لا سيما في ظل محاكمة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وبيّن أن هذا الصراع يعكس انقسامًا بين تيار الليكود بقيادة نتنياهو، والذي يتبنى سياسة متشددة، وقوى يهودية عالمية ذات نفوذ سياسي واقتصادي تسعى لترسيخ الاستقرار.
وأشار إلى أن المحكمة الجنائية الدولية (UCM)، التي تتخذ من إنجلترا وهولندا مقرًا لها، أصبحت أداة في يد هذه القوى العالمية لمحاكمة نتنياهو، مما يعكس أن المواجهة لم تعد بين إسرائيل والخارج، بل داخل المجتمع اليهودي نفسه.
دور بريطانيا في مواجهة الليكود
أكد توركونه أن بريطانيا تلعب دورًا محوريًا في هذا الصراع، حيث تمثل مصالح التيار العالمي اليهودي الساعي إلى النظام والاستقرار، في مواجهة الليكود الذي يدفع نحو الفوضى. ولفت إلى أن لندن اتخذت خطوات فعلية، منها رفض دخول بعض أعضاء الليكود إلى أراضيها، مما يدل على تصعيد متبادل بين الطرفين.
الخلاصة: انعكاسات داخلية وإقليمية على السياسة التركية
خلص البروفيسور ممتازر توركونه إلى أن الصراع داخل إسرائيل وبين القوى الكبرى، وكذلك التحولات الداخلية في تركيا، تمثل فرصًا وتحديات أمام صناع القرار في أنقرة. فنجاح تركيا في التعامل مع الملف السوري، وفي تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي الداخلي، يمرّ عبر خيار الديمقراطية الدستورية، والتعاون مع القوى الداعمة للنظام والاستقرار في الإقليم، وعلى رأسها بريطانيا، وفقا لرؤيته.

