في لحظة سياسية مفصلية، تتجه تركيا نحو صراع مفتوح بين زعامة تتمسّك بالسلطة حتى الرمق الأخير، ومعارضة تزداد تماسكاً وحضوراً شعبياً ومؤسساتياً. البروفسور والكاتب السياسي المخضرم ممتازَر توركونه يرسم في تحليل شامل ملامح الأزمة السياسية الراهنة، مشيراً إلى تصاعد مخاطر الفوضى والانزلاق نحو الاستبداد، وسط حالة اصطفاف داخلي وتحولات بنيوية في خريطة القوى الفاعلة.
سؤال البداية: من سيربح ومن سيخسر؟
يفتتح توركونه تحليله بالتأكيد على أن زاوية السؤال تصوغ طبيعة الإجابة. فالحديث عن “الرابح” يسلّط الضوء على مكامن القوة والاستراتيجية، بينما التركيز على “الخاسر” يكشف مواطن الضعف والارتباك. وبحسبه، لا يمكن فهم المشهد التركي إلا بمقاربة مزدوجة، تنظر إلى أوراق اللاعبين واستراتيجياتهم المُعلنة والمضمرة في آنٍ معاً.
ويشدد على أن اللعبة السياسية تُدار اليوم ببطاقات مكشوفة؛ لا أسرار بين الأطراف، ولا أوهام لدى المواطنين. فحتى المواطن البسيط بات قادراً على توقّع المسار العام للأحداث وسط تصاعد وتيرة الصراع.
اللاعبون الأساسيون: رجل واحد في مواجهة مؤسّسة جماعية
رجب طيب أردوغان: الفرد المطلق
يصوّر توركونه الرئيس رجب طيب أردوغان كفاعل أوحد، يمسك بمفاصل الدولة كافة، ويتّخذ القرارات بشكل أحادي. فشعبيته تتجاوز حزبه، وحزبه تحوّل إلى ما يشبه الظلّ الباهت لحضوره الطاغي. ورغم تراجع التأييد الشعبي له، يواصل رهانه على الزمن واستنزاف الخصوم، رافضاً أي سيناريو للتراجع.
حزب الشعب الجمهوري: جبهة متعددة الرؤوس
على الجهة الأخرى، يصف توركونه حزب الشعب الجمهوري بأنه ليس مجرد تنظيم سياسي، بل بنية مؤسساتية تتوزع على شخصيات صاعدة أبرزها زعيم الحزب أوزجور أوزيل، ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، إلى جانب شبكة بلديات وكوادر حزبية نشطة. ويضيف أن المعارضة تحتفظ بميزة واضحة: كل شخصية قيادية فيها تجد صدىً جماهيرياً مباشراً، بينما يفتقر حزب العدالة والتنمية إلى شخصيات بديلة موازية لأردوغان.
مخاوف السلطة: ليس من الخسارة بل من تبعاتها
يُبرز توركونه أن قلق النظام لا يتأتّى فقط من تراجع شعبيته أو توسّع المعارضة، بل من الرعب الكامن من مرحلة ما بعد أردوغان. إذ يخشى كثيرون في معسكر السلطة من انتصار المعارضة، وما قد يتبعه من موجة محاسبات وفتح ملفات الفساد والانتهاكات المغلقة حاليا. هذا الخوف، بحسبه، هو ما يدفع الكثير من المنتفعين إلى التزام الصمت، بل أحياناً إلى انتقاد ما يتعرض له خصومهم من مضايقات، في تلميحات مفاجئة إلى أن “السلطة قد بالغت في قمعها”.
ويتابع أن النظام الحالي قائم على شخص واحد، وبالتالي فإن غيابه – سواء لأسباب سياسية أو طبيعية – من شأنه أن يتسبب بانهيار كامل للبنية الحاكمة.
التحالفات المتهالكة: من حضر ومن غاب؟
يُلاحظ توركونه أن حزب الحركة القومية (MHP)، الحليف التقليدي لأردوغان، بات يوجّه إشارات مبطنة بضرورة احترام القانون والتوازن. أما بقية الأحزاب المعارضة، فلم تعد مؤثرة في المشهد، في حين تجد حتى التشكيلات الهامشية مثل حزب الظفر نفسها مضطرة للاصطفاف مع حزب الشعب الجمهوري في وجه السلطة المتغوّلة.
أزمة “أنا لا أرحل”: احتدام بين الثبات والانهيار
يُطلق توركونه على هذه اللحظة عنوان “أزمة لا أرحل”، في إشارة إلى رفض أردوغان التخلي عن الحكم رغم كل التحولات. ويؤكد أن هذه الأزمة ولّدت حالة استقطاب جديدة أعادت تشكيل الخريطة السياسية، ودفعت بحزب الشعب الجمهوري إلى تثبيت هيمنته المعنوية والتنظيمية في ساحة المعارضة، بل واختراقه لمناطق لم تكن من قبل ضمن امتداده الشعبي.
مستقبل الأزمة: تسوية مستحيلة أم انفجار وشيك؟
يرى توركونه أن الطريق أمام تركيا لا يخرج عن سيناريوهين اثنين:
- التصعيد المتبادل:استمرار الاعتقالات قد يدفع نحو احتجاجات شعبية واسعة، تقابلها السلطة بإعلان حالة الطوارئ. لكن ذلك، كما يحذّر، قد يفتح الباب لنظام سلطوي كامل ويُفقد القصر شرعيته الأخلاقية.
- التهدئة غير الواقعية:المعارضة لا تستطيع التراجع لأنها كيان مؤسسي متعدد الأبعاد، وأردوغان لا يمكنه التراجع دون خسارة مشروعه السياسي بالكامل. لذا، فإن المأزق مستمر.
ورغم نفيه لاحتمال وجود نية مباشرة لاستفزاز المعارضة من أجل فرض حالة الطوارئ، لا يُخفي توركونه قلقه من الانزلاق نحو الفوضى، محذراً من أن السلطة “تحفر قبرها بيدها” حينما تفقد التوازن بين القوة والشرعية الشعبية.
التناقض البنيوي: لا سلطة استبدادية تحل القضايا التاريخية
ينتقد توركونه ما يصفه بالتناقض الفجّ في خطاب السلطة التي تدّعي العمل على حل القضية الكردية عبر الديمقراطية، بينما تدفع البلاد نحو الاستبداد.
ويؤكد أن مستقبل الشراكة التركية-الكردية لا يمكن بناؤه إلا عبر دستور ديمقراطي جديد، وبرلمان فاعل، وقضاء مستقل. ويضيف أن المسألة الكردية ليست قضية أمنية أو عسكرية، بل سياسية وتاريخية، ولا يمكن تفكيكها ضمن نظام يزداد قمعاً وانغلاقاً.
الاقتصاد الغائب الحاضر
رغم تركيز التحليل على المشهد السياسي، لا يغفل توركونه الأثر العميق للأزمة الاقتصادية، مذكّراً بأن الشعب لا يعنيه فقط من يحكم، بل ما يقدّمه الحاكم من حلول لأزمات المعيشة. وفي ظل تضخم متصاعد وأزمات بنيوية، يرى أن معارك السلطة لن تحدد وحدها مستقبل تركيا.
نهاية الحكاية: التاريخ لا يرحم
يختم توركونه تحليله بمجاز بليغ قائلاً: “الحكايات السياسية تنتهي غالباً بأن يواصل جنود الملك المهزوم القتال، بعد أن سقط عرشهم”، لكنه يلفت إلى أن ما يجري في تركيا اليوم يتجاوز الصراع على السلطة إلى معركة حول هوية الدولة ومصيرها.

