بقلم: ياوز أجار
في مقال صحفي مثير نشره الكاتب التركي المخضرم أرطغرل أوزكوك، روى مشهدًا لافتًا من داخل مقر جهاز الاستخبارات التركية في إسطنبول صباح السابع من أكتوبر 2023، حين كان وفد من الذراع السياسية لحركة حماس يلتقي بمسؤولين أتراك.
وخلال الاجتماع، وردت أنباء عاجلة عن الهجوم المفاجئ الذي شنّته كتائب القسام داخل إسرائيل، والذي أسفر – بحسب المعلومات الأولية – عن مقتل ما لا يقل عن ألف شخص. ساد الصمت في القاعة قبل أن تنفجر فرحة وفد حماس بالتكبير والتهليل، فيما اكتفى مسؤولو الاستخبارات التركية بالمراقبة الصامتة. عندها طرح أحد كبار الضباط الأتراك سؤالًا بدا استراتيجيًا أكثر من كونه سياسيًا: “لقد نفذتم عملية ضخمة وغير متوقعة، ولكن ما هي الخطوة التالية؟ هل فكرتم في المرحلة الثانية؟“
لم يأتِ الجواب. فاستأنف المسؤول التركي قائلاً:
“لقد جعلتم الصراع الآن واحدًا لصالحكم، لكن إسرائيل لن تكتفي بالتعادل، بل ستقلب النتيجة إلى عشرة مقابل واحد. هل لديكم خطة لمواجهة ذلك؟“
كان الصمت كاشفًا، كما يروي أوزكوك، عن غياب الرؤية الاستراتيجية لدى القيادة السياسية لحماس، وعن إدراك الاستخبارات التركية في تلك اللحظة أن الانتصار العاطفي قد يتحول إلى هزيمة طويلة الأمد إذا لم يُبنَ على وعيٍ وتخطيط عقلاني.
هذا المشهد، وإن بدا آنياً، يعيد إلى الأذهان الفكر الإصلاحي العميق للمفكر السوري الراحل جودت سعيد، الذي جعل من الوعي والعقلانية حجر الأساس في فلسفة النهوض والتحرر.
جودت سعيد: سيرة المفكر ورسالة الإصلاح
وُلد جودت سعيد عام 1931 في قرية بئر عجم بمحافظة القنيطرة في هضبة الجولان السورية، وتلقّى تعليمه في الأزهر الشريف حيث تشكّل وعيه الإسلامي المبكر المتأثر بالمنهج المقاصدي والعقلاني.
كرّس حياته للدعوة إلى اللاعنف والإصلاح الفكري والسياسي في العالم الإسلامي، حتى لُقّب بـ«غاندي الإسلام»، وتوفي في30 يناير 2022 بمدينة إسطنبول بعد مسيرة فكرية امتدت لأكثر من ستة عقود في الدفاع عن الوعي الإنساني والإصلاح السلمي.
العنف يعيد إنتاج الاستبداد
ينطلق جودت سعيد في تحليله للقضية الفلسطينية من مبدأ أخلاقي صارم: العنف لا يحرر الإنسان، بل يعيد إنتاج الاستبداد ذاته الذي يسعى للتخلص منه.
فالعنف، في رأيه، ليس مجرد أداة ردع، بل ثقافة ومنهج يخلق دورة متكررة من القهر. وعندما تستخدم الشعوب المقهورة السلاح قبل إصلاح الوعي، فإنها تنقل منطق القهر إلى مرحلة جديدة، لكنها بوجهٍ آخر.
ويرى سعيد أن منطق القوة الذي تقوم عليه إسرائيل لا يمكن مواجهته بالمنطق ذاته، لأن النصر الأخلاقي لا يتحقق بالسلاح بل بالفكر والوعي. فالثقافة التي تبدأ بالعنف – كما يقول – لا يمكن أن تبني الحرية، لأن الحرية لا تُولد من رحم الكراهية.
بناء الوعي قبل المقاومة
يرى جودت سعيد أن الطريق إلى تحرير الأرض يبدأ من تحرير الإنسان من الجهل والانقسام والتعصب. فالقضية الفلسطينية في جوهرها ليست صراعًا سياسيًا فقط، بل صراع بين العقل الراشد والعقل الهابط في الأمة. ويؤكد في مؤلفاته مثل “مذهب ابن آدم الأول“ و”حتى يغيروا ما بأنفسهم” أن الهزيمة الكبرى ليست في فقدان الأرض بل في فقدان البصيرة، وأن القوة التي تنشأ من الفكر والعدل هي أعظم من أي ترسانة عسكرية. فمن دون ثورة فكرية تسبق الثورة المسلحة، تظل المقاومة شكلية، وتتحول إلى ردّ فعلٍ غاضب لا إلى مشروع تحرّر حقيقي.
المقاومة المدنية سبيل النصر
في منظور جودت سعيد، المقاومة المدنية اللاعنفية هي أرقى أشكال الجهاد في العصر الحديث، لأنها تتأسس على قوة الأخلاق لا على عنف الغضب. يستمدّ هذا المفهوم من سيرة الأنبياء ومن تجارب بشرية حديثة كغاندي ونيلسون مانديلا، مؤكدًا أن «قوة الحق» تفوق «حق القوة» عندما تُبنى على الصبر والتنظيم والاقتناع. ويستشهد بقوله تعالى: “ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”. ليُبرز أن الإسلام، في جوهره، مشروع إصلاح إنساني لا مشروع انتقام. فالمقاومة السلمية في فكره ليست ضعفًا أو استسلامًا، بل هي قوة أخلاقية تقلب موازين الصراع لأنها تسحب من العدو مبرر العنف، وتعيد بناء الذات على أسس العدل والكرامة.
العدل والمصالحة قبل النصر العسكري
يرى جودت سعيد أن أي حلّ دائم للقضية الفلسطينية يجب أن يقوم على العدل والمصالحة التاريخية لا على منطق الإبادة أو الإقصاء. فالانتصار الحقيقي لا يتحقق بسحق العدو، بل بتحوّله إلى صديقٍ في ظل نظامٍ عادل يعترف بالكرامة الإنسانية المشتركة. ويستحضر في هذا السياق تجارب دولية مثل جنوب أفريقيا والهند، حيث لم يُنتزع السلام بالقوة، بل تحقق عبر الوعي الجماعي والتسامح السياسي.فالقوة الأخلاقية – في رأيه – أعمق أثرًا من القوة العسكرية، لأنها تُنتج سلامًا مستدامًا لا هدنة مؤقتة.
إصلاح الداخل قبل مواجهة الخارج
من ركائز فكر جودت سعيد أن إصلاح الداخل شرط لتحرير الخارج. فالشعوب التي تعيش تحت أنظمة قمعية لا يمكنها أن تحقق تحريرًا وطنيًا حقيقيًا، لأن من يُستعبد في وطنه لا يستطيع أن يحرر غيره. ويرى أن الإصلاح السياسي والتربوي هو الخطوة الأولى على طريق النصر، لأن الحرية لا تُنتزع من الخارج بل تُبنى في الداخل.وفي عبارته الشهيرة يقول: “التحرير يبدأ من داخل النفس والعقل، لا من فوهة البندقية”.
السياق الراهن
مع اشتداد الحرب في غزة وتواصل المفاوضات التي ترعاها مصر بين إسرائيل وحماس، تبدو أفكار جودت سعيد أكثر راهنية من أي وقت مضى. فبينما يواصل الطرفان تبادل القوة المادية، يغيب المشروع الأخلاقي والفكري الذي يمكن أن يؤسس لانتصارٍ دائم قائم على الوعي لا على الدماء.
إن تجربة أكتوبر 2023 وما تبعها من دمار إنساني هائل تكشف، كما قال سعيد قبل عقود، أن الانتصارات المؤقتة التي لا تُبنى على رؤية فكرية متماسكة، تتحول إلى هزائم استراتيجية في المدى البعيد.

