في ظل مؤشرات متزايدة على بدء مرحلة “ثانية” من عملية التسوية بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني (PKK)، كشف الدبلوماسي التركي السابق عمر مراد عن تفاصيل ما أسماه “صفقة كبرى” يجري التفاوض بشأنها خلف الأبواب المغلقة، تتضمن وعوداً تركية مقابل إنهاء نشاط الكردستاني، أبرزها رفع العزلة عن عبد الله أوجلان والاعتراف الضمني بحكم ذاتي كردي شمال شرقي سوريا.
حلقة جديدة من التفاوض – مناورات بين الكواليس والإعلام
أثار تصريح زعيم حزب الحركة القومية (MHP) دولت بهجلي حول إمكانية ظهور أوجلان في البرلمان للإعلان عن وقف العمل المسلح باسم العمال الكردستاني، موجة تساؤلات حول طبيعة التفاهمات الجارية. وبحسب عمر مراد، فإن تصريح بهجلي لم يكن ارتجالياً، بل “إشارة انطلاق” لمرحلة جديدة من التفاوض، تؤكدها الوثائق والمواقف اللاحقة، ومنها بيان حلّ الكردستاني نفسه.
تعهدان جوهريان من أنقرة للكردستاني
1. رفع العزلة عن عبد الله أوجلان
بحسب عمر مراد، يتضح أن أولى الوعود التركية تتعلق برفع العزلة عن عبد الله أوجلان ومنحه حرية التواصل مع قادة الكردستاني ومسؤولي حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب. هذا ما أكده بيان الكردستاني بوضوح، حين ربط تنفيذ القرار بـ”قدرة القائد أوجلان على إدارة وتوجيه العملية، وضمان حقه في العمل السياسي، وتوفير ضمانات قانونية شاملة”.
2. الاعتراف بـ”روجآفا”
الالتزام الثاني، وفق مراد، يتمثل في الاعتراف الضمني بحكم ذاتي كردي في شمال شرق سوريا (روجآفا)، الذي يقوده “قوات سوريا الديمقراطية” (SDF) بقيادة وحدات حماية الشعب الكردية. وأوضح أن تصريحات بهجلي حول “تنسيق الانتقال من الكردستاني وحدات حماية الشعب تعبّر عن قبول تركي بتحول قادة الكردستاني المنحل إلى العمل تحت عباءة وحدات حماية الشعب في سوريا، لا اللجوء إلى دول ثالثة.
خطاب مزدوج من أنقرة – تفاوض في السر وإنكار في العلن
رغم وضوح التصريحات من بهجلي، الحليف الأساسي للحزب الحاكم، يواصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنكار وجود أي صفقة، متحدثاً بلغة مشددة عن “ملاحقة فروع الكردستاني في سوريا والعراق وحتى أوروبا”. كذلك، نفى وزير العدل التركي وجود أي نقاش حول “حق الأمل” لأوجلان، ما أثار انتقاداً علنياً من حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب، واعتُبر “تسميمًا لأجواء التفاوض”.
الأدوار الدولية – وساطة أمريكية وإنجليزية ووعود خليجية
أكد عمر مراد أن العملية التفاوضية الجارية تتم عبر وساطة دولية تقودها الولايات المتحدة وبريطانيا، بهدف إنهاء نشاط الكردستاني في تركيا مقابل تنازلات تركية في الملف السوري. من المؤشرات البارزة إعلان إدارة ترامب نيتها رفع العقوبات عن سوريا مباشرة بعد إعلان الكردستاني “نية الحل”، ما يُفهم كجزء من تفاهم أوسع بين أنقرة ودمشق برعاية واشنطن.
عقدة قوات سوريا الديمقراطية والاعتراف التركي غير المعلن
في مؤتمر صحفي مؤخراً، رحّب وزير الخارجية التركي هاكان فيدان باتفاق بين واي بي جي ونظام الأسد، لكنه تحاشى ذكر قوات سوريا الديمقراطية بالاسم، رغم أن القائد الموقع هو مظلوم عبدي، المعروف بصفته قائد قوات قوات سوريا الديمقراطية. هذه الازدواجية، بحسب مراد، تكشف عن تناقض بين الموقف السياسي العلني والمواقف التفاوضية الحقيقية التي تجري خلف الكواليس.
ذاكرة أول تجربة – لماذا قد يفشل “الحل الثاني”؟
أشار عمر مراد إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي ينخرط فيها أردوغان في مفاوضات مماثلة. ففي “العملية الأولى”، سعى أردوغان – بحسب مراد – للحصول على جائزة نوبل للسلام من خلال المفاوضات مع أوجلان، قبل أن يتراجع فجأة بسبب الحسابات السياسية الداخلية والرهان على تأجيج المشاعر القومية قبيل التحول إلى النظام الرئاسي.
الرأي العام التركي لا يشتري “رواية الانتصار”
رغم السيطرة شبه الكاملة على الإعلام، تظهر استطلاعات الرأي – بحسب مراد – أن نحو 70% من الأتراك لا يثقون في المسار التفاوضي الجاري، ولا يقتنعون بأن الكردستاني “استسلم دون مقابل”.
الملف الكردي في قلب العاصفة السياسية
جاءت هذه التطورات في وقت حساس، إذ تشهد تركيا اضطراباً سياسياً واقتصادياً متصاعداً. فبعد الحكم بسجن رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، يجد أردوغان نفسه في مواجهة جبهة معارضة أكثر صلابة. وبحسب مراد، فإن “الإطاحة بإمام أوغلو كانت منعطفاً حاداً، لكن فتح باب التسوية الكردية قد يكون المنعطف الأخطر”.
مأزق أردوغان – مناورة محفوفة بالمخاطر
يرى عمر مراد أن أردوغان يحاول تكرار تكتيك “التفاوض دون التزام”، أي المضي بمسار تفاوضي حقيقي سراً، مع التهرب من مسؤولية نتائجه علنًا. هذا يُبقي له حرية الانسحاب إذا تطلبت حساباته الانتخابية ذلك، كما فعل سابقاً عام 2015.
لكن هذه المرة ليست كسابقتها
“الفرق هذه المرة”، وفق مراد، أن الوضع الاقتصادي أكثر هشاشة، والصورة الدولية لتركيا أكثر تعقيداً، والجهات الوسيطة – خاصة واشنطن – أقل استعداداً لغض الطرف عن النكوص بالاتفاقات. وهو ما يجعل احتمالات الانسحاب مكلفة للغاية، سواء داخلياً أو خارجياً.
نحو نهاية مألوفة؟
في تقييمه النهائي، يؤكد عمر مراد أن مسار “الحل الثاني” يكرّر الكثير من ملامح التجربة الأولى، مشيراً إلى أن أردوغان قد يتراجع في اللحظة الأخيرة إذا تعارضت العملية مع مصالحه الانتخابية، لكن الكلفة هذه المرة ستكون أعلى، سياسياً واقتصادياً.

