دخلت العلاقات بين أنقرة والسلطات الموازية في شرق ليبيا مرحلة جديدة مع تكثيف اللقاءات السياسية والأمنية، في ظل مساعٍ تركية لتوسيع نفوذها في البلاد بما يتجاوز دعمها التقليدي لحكومة طرابلس.
التطور الأبرز جاء بزيارة رئيس جهاز الاستخبارات التركية إبراهيم قالين إلى مدينة بنغازي ولقائه قائد “الجيش الوطني الليبي” المشير خليفة حفتر، في وقت يستعد فيه البرلمان الليبي في طبرق لبحث المصادقة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة بين أنقرة وطرابلس عام 2019.
لقاء بنغازي: ملفات أمنية وسياسية على الطاولة
الاجتماع الذي جمع قالين مع حفتر وعدد من قيادات “الجيش الوطني الليبي” تطرق إلى ملفات الأمن الإقليمي والتعاون الثنائي. كما عقد قالين لقاءً مع صدام حفتر، نجل القائد العام الذي تمت ترقيته مؤخراً إلى منصب نائب قائد الجيش، حيث ناقشا قضايا التعاون الاستخباراتي والأمني.
الزيارة تأتي بعد أيام من رسو الفرقاطة التركية“TCG كينالي أدا” في ميناء بنغازي خلال الفترة من 20 إلى 21 أغسطس، حيث شاركت في تدريبات مشتركة مع الزوارق الليبية وأجرت لقاءات مع وفود عسكرية وسياسية تحت شعار “ليبيا واحدة، جيش واحد”. الوفد التركي كان بقيادة العميد إلكاي ألطنداغ، وضم السفير التركي لدى ليبيا والقنصل العام في بنغازي، وقد التقى الوفد أيضاً صدام حفتر خلال الزيارة.
الاتفاقية البحرية: بين الشرعية الداخلية والطموحات الإقليمية
اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة عام 2019 بين أنقرة وحكومة الوفاق السابقة في طرابلس منحت تركيا موقعاً استراتيجياً في صراع الطاقة بالمتوسط، لكنها قوبلت برفض شديد من معسكر حفتر آنذاك. اليوم، وفي حال وافق البرلمان الليبي في طبرق على المصادقة، ستكسب الاتفاقية شرعية داخلية إضافية، بما يعزز الموقف القانوني التركي في مواجهة اعتراضات اليونان وقبرص، اللتين وصفتا الاتفاق بأنه باطل.
جدير بالذكر أن الأمم المتحدة كانت قد سجّلت الاتفاقية رسمياً عام 2020، ما منحها ثقلاً قانونياً على المستوى الدولي.
دوافع أنقرة: مناصرة طرابلس إلى “الحياد الفاعل“
التحول التركي يعكس سياسة أكثر براغماتية، إذ لم تعد أنقرة تقتصر على دعم حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، بل تسعى لتكون طرفاً مقبولاً لدى جميع مراكز القوى الليبية.
محللون يرون أن هذا النهج يأتي نتيجة هشاشة الوضع السياسي في طرابلس، وفتح فرص استثمارية في الشرق الليبي، إلى جانب حرص أنقرة على حماية مكتسباتها البحرية في المتوسط. كما يدخل هذا التوجه في إطار سياسة إقليمية أوسع لانتهاج مسار “التطبيع” مع مصر والإمارات والسعودية.
حفتر ومصالحه الجديدة: من المواجهة إلى الواقعية
على الجانب الآخر، فإن تراجع الدعم الروسي بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وفتور حماس الحلفاء الإقليميين، دفع حفتر إلى البحث عن شراكات جديدة أكثر فاعلية. تركيا تمثل له فرصة مزدوجة، فمن جهة توفر تدريباً عسكرياً وإمكانات لوجستية، ومن جهة أخرى تفتح له نافذة سياسية مع قوى إقليمية مؤثرة.
حفتر الذي كان يتهم أنقرة بالتدخل العسكري خلال هجومه على طرابلس بين 2019 و2020، يجد نفسه اليوم مضطراً لتبني مقاربة أكثر براغماتية، خاصة مع توقف مشروعه العسكري للسيطرة على العاصمة.
مسار التقارب: خطوات متدرجة منذ 2023
عملية التقارب لم تكن مفاجئة بل بدأت ملامحها تتضح منذ أواخر 2023 عندما زار رئيس برلمان طبرق أنقرة، تلتها زيارات متكررة لصدام حفتر للمشاركة في معارض دفاعية واجتماعات عسكرية بتركيا. وفي عام 2024 أعادت أنقرة فتح قنصليتها في بنغازي، ثم شكّل البرلمان الشرقي لجنة لدراسة اتفاقية الحدود البحرية، مما مهد الطريق للقاءات العلنية الأخيرة.

