تعيش تركيا في السنوات الأخيرة حالة مركبة من الاستقطاب السياسي والتوتر المجتمعي، في ظل تحولات داخلية عميقة وتغيرات متسارعة في البيئة الدولية. وقد أثارت أطروحة “لبناننة تركيا” – التي طرحها الإعلامي ليفنت غلتيكن – جدلاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية والسياسية، لما تنطوي عليه من تشبيه بين النموذج اللبناني القائم على التوازنات الطائفية والعرقية، وبين التحولات التي يشهدها النظام التركي المعاصر.
في هذا السياق، يقدم البروفيسور صواش جنتش قراءة مغايرة، إذ يؤكد أن مفتاح المشهد التركي ما يزال بيد الرئيس رجب طيب أردوغان، وأن الدولة تُدار وفق معادلات “شخصنة الحكم” لا عبر قوى غامضة أو خفية كما يرى غلتيكن. هذه الدراسة تحاول تفكيك أهم عناصر هذا الجدل، عبر مقاربة تحليلية للمحاور السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدولية ذات الصلة.
أولاً: جدلية السلطة – بين القوة الغامضة وشخصنة الحكم
أطروحة “القوة المجهولة” تفترض أن أردوغان مجرد أداة، فيما يذهب جنتش إلى أن أردوغان هو الفاعل المركزي وصاحب السيطرة المباشرة على مفاصل الدولة. هذا التباين يعكس انقساماً في تفسير طبيعة السلطة في تركيا: هل هي منظومة فوق شخصية، أم أنها متجسدة في شخص الرئيس وحلفائه المباشرين؟
تُظهر الوقائع – وفق تحليل جنتش – أن مركزية أردوغان في القرار السياسي والإداري تجعل أي تغيير سياسي مرتبطاً بشخصه وبكيفية خروجه أو استمراره.
“لبناننة الدولة” – من المجاز إلى الواقع
يُعد اختيار لبنان كمثال تشبيهي ذا دلالات متعددة. فالنظام اللبناني يقوم على تقاسم السلطة وفق المذاهب والهويات الفرعية، في غياب مؤسسة وطنية جامعة. ويشير جنتش إلى أن تركيا تسير تدريجياً نحو هذا النمط من خلال:
- تصاعد الخطاب القائم على الهويات العرقية والمذهبية.
- تهميش المكوّن العلوي في الخطاب السياسي الرسمي.
- تعزيز الولاءات على حساب المواطنة.
هذا المسار، إذا استمر، قد يفضي إلى تفكيك الهوية الوطنية الجامعة ويُدخل الدولة في حالة هشاشة تشبه النموذج اللبناني.
المعارضة وإشكالية “الوصاية”
إحدى أبرز أدوات السلطة في تحجيم المعارضة هي تعيين أوصياء على البلديات أو حتى على الأحزاب. يرى جنتش أن تعيين وصي على حزب الشعب الجمهوري أو على بلدية إسطنبول سيكون بمثابة إعلان رسمي عن نهاية التعددية السياسية.
مع ذلك، يؤكد أن هذه الخطوة لن تُفقد حزب العدالة والتنمية شعبيته الجوهرية، بل قد تُرضي قواعده، إذ إن المعارضة ليست ذات جاذبية انتخابية لهذه الكتلة. غير أن انعكاساتها الاقتصادية قد تكون خطيرة، لأن الأسواق وإن كانت قد تكيّفت مع “السلطوية الجزئية”، فإنها قد لا تتحمل خطوة بهذا الحجم.
مستقبل أردوغان ومعضلة الانتقال السياسي
يرى جنتش أن أردوغان لا يُظهر استعداداً للتنحي الطوعي، وقد يستخدم أدوات عدة للبقاء في السلطة مثل تأجيل الانتخابات، والتلاعب بنتائجها، أو حتى الدخول في مواجهة عسكرية خارجية من أجل إعادة تشكيل الداخل التركي.
لكن مهما امتد أمد حكمه، فإن “قانون التاريخ” – وفق تعبير جنتش – يجعل رحيله أمراً محتوماً. والسؤال الأهم يتمثل في كيفية خروجه: فإذا جاء الخروج سلمياً، قد يحدّ ذلك من حجم المحاسبة ضد قادة العدالة والتنمية. أما إذا جاء عبر صدام أو رفض للانتقال، فقد يُفضي ذلك إلى محاكمات واسعة وفرض عقوبات قاسية على النخب الحاكمة.
البعد الدولي وتغيّر السياق العالمي
يربط جنتش مستقبل النظام التركي بالمشهد الدولي، خصوصاً الولايات المتحدة وإسرائيل. فخسارة ترامب أو نتنياهو في الانتخابات المقبلة قد تؤثر في الدعم غير المباشر الذي يحظى به أردوغان.
غير أن احتمالات تحالف حزب الشعب الجمهوري مع حزب الحركة القومية تبقى ضعيفة، إذ ترى المعارضة أن التطبيع السياسي يتطلب شركاء آخرين بعيدين عن السلطوية.
الاقتصاد والمجتمع – الكلفة الباهظة للسلطوية
تركيا، وفق تحليل جنتش، تعيش حالة “شراء الوقت” من خلال توزيع الامتيازات والسيطرة الإعلامية. لكن هذه المعادلة لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، لأن التوازن الاقتصادي هش ومعرّض لأي صدمة سياسية جديدة.
أما على المستوى المجتمعي، فإن تصاعد الخطاب الهوياتي يضعف الثقة بالمؤسسات ويُنتج انقسامات قد يصعب احتواؤها في المستقبل.
الأمن والسياسة – ورقة الحرب كخيار أخير
يُحذّر جنتش من إمكانية لجوء السلطة إلى خيار الحرب الخارجية لتوحيد الداخل وصرف الأنظار عن الأزمات. فالمجتمع التركي، بحكم نزعة قومية متجذرة، يميل إلى التماسك في مواجهة “الخطر الخارجي”. لكن هذا الخيار قد يكون مكلفاً داخلياً ودولياً، ويعكس مأزقاً في إدارة الانتقال السياسي.
تدل معطيات التحليل على أن تركيا تعيش لحظة مفصلية، حيث تتقاطع مظاهر “لبناننة الدولة” مع شخصنة الحكم. ما بعد أردوغان ليس مجرد انتقال سياسي تقليدي، بل هو معركة حول هوية الدولة ومستقبلها الديمقراطي. إن استمرار النزعة السلطوية، مقترنة بالخطاب الهوياتي، قد يقود البلاد إلى أزمات متراكبة، فيما يبقى الانتقال الديمقراطي رهناً بتغيّر السياقين الداخلي والدولي على السواء.

