شهدت الساحة السياسية التركية تطوراً جديداً في ملف التحقيقات المتعلقة بالفساد والرشوة، مع إعلان السلطات اعتقال خمسة عشر شخصاً، بينهم رئيس بلدية سابق من حزب الشعب الجمهوري المعارض، في إطار حملة واسعة لمكافحة الجريمة المنظمة في محافظة بورصة شمال غربي البلاد.
التحقيق الذي تقوده النيابة العامة في بورصة يأتي وسط تصاعد حاد في المواجهة السياسية بين الحكومة والمعارضة، بعد انتخابات محلية قلبت موازين القوى في العديد من المدن الكبرى.
تفاصيل القضية: شبكة مالية معقدة واتهامات بالثراء غير المشروع
بحسب وكالة أنكا للأنباء، شملت الاعتقالات تورغاي أردم، الرئيس السابق لبلدية نيلوفر، إحدى أبرز مناطق بورصة، والذي تولى المنصب بين عامي 2019 و2024. وقد أوقفت الشرطة أردم مع واحد وعشرين متهماً آخر في إطار تحقيقات تتعلق بتأسيس وإدارة منظمة إجرامية، وتلقي رشى، وغسل أموال متأتية من أنشطة غير قانونية.
وأوضحت النيابة العامة أن التحقيقات أسفرت عن مصادرة مبالغ مالية ومجوهرات وعقارات وسيارات وحسابات مصرفية وأرصدة من العملات الرقمية، يشتبه في ارتباطها بالجرائم محل الاتهام. كما تم وضع إحدى الشركات المرتبطة بالقضية تحت وصاية “صندوق تأمين الودائع المصرفية“، وهي هيئة حكومية تتولى إدارة الأصول المصادرة في قضايا الفساد والجرائم الاقتصادية.
المتهمون والمفرج عنهم: شبكة تمتد إلى العائلة
بين الموقوفين زوجة تورغاي أردم وشقيق زوجته، اللذان أُفرج عنهما مع خمسة آخرين بشروط المراقبة القضائية، بينما لا يزال مشتبه به واحد في حالة فرار. وتشير التحقيقات إلى أن بعض المتورطين استخدموا واجهات تجارية لتغطية تحويلات مالية مشبوهة بين بلدية نيلوفر وشركات خاصة.
خلفية سياسية: نيلوفر بين المعارضة والسلطة
أردم، الذي يعمل مهندساً معمارياً، كان قد انتُخب رئيساً لبلدية نيلوفر في انتخابات 2019 بدعم من حزب الشعب الجمهوري، إلا أن الحزب لم يرشحه مجدداً في انتخابات مارس 2024، التي فاز فيها مرشح الحزب الجديد شادي أوزدمير بنسبة تقارب 59 بالمئة من الأصوات. وتُعد نيلوفر من أبرز معاقل الحزب المعارض في شمال غرب تركيا، ما جعلها مركز اهتمام سياسي متزايد خلال السنوات الأخيرة.
اتساع نطاق التحقيقات: حملة تطال رؤساء بلديات المعارضة
القضية الأخيرة ليست معزولة عن سياق أوسع، إذ تمثل حلقة جديدة في سلسلة من التحقيقات التي تستهدف شخصيات بارزة من حزب الشعب الجمهوري في أنحاء البلاد. فمنذ أكتوبر 2024، تم توقيف أو وضع أكثر من عشرة رؤساء بلديات من الحزب قيد الحبس الاحتياطي، من بينهم رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، بتهم تتراوح بين الفساد وتلقي الرشى والتورط في “أنشطة ذات صلة بالإرهاب”، بحسب الاتهامات الرسمية.
رد المعارضة: اتهامات بتصفية سياسية ممنهجة
قيادة حزب الشعب الجمهوري وصفت هذه الموجة من الاعتقالات بأنها “حملة سياسية منظمة” تهدف إلى تقويض نتائج الانتخابات المحلية التي جرت في مارس 2024، والتي حقق فيها الحزب انتصاراً واسعاً على حزب العدالة والتنمية الحاكم، منتزعاً السيطرة على معظم المدن الكبرى.
وأكد الحزب أن “التحقيقات الموجهة” تسعى إلى نزع الشرعية عن رؤساء البلديات المنتخبين ديمقراطياً، في محاولة لإعادة فرض هيمنة الحكومة المركزية على الإدارات المحلية المعارضة.
تحذيرات حقوقية: تآكل متسارع في الحريات السياسية
من جانبها، حذرت منظمات حقوقية محلية ودولية من أن موجة الاعتقالات الأخيرة تمثل ضربة جديدة للديمقراطية التركية، مشيرة إلى أن استهداف مسؤولي المعارضة تحت ذريعة “الفساد” يعكس تراجع استقلالية القضاء، ويزيد من تضييق مساحة العمل السياسي الحر قبل أي استحقاق وطني مقبل.
بين مكافحة الفساد وتوازنات السلطة
بينما تصرّ الحكومة على أن هذه العمليات تأتي ضمن حملة شاملة لمكافحة الفساد، يرى معارضون أن التوقيت والسياق السياسي يشيران إلى أهداف أعمق تتعلق بإعادة رسم خريطة النفوذ المحلي قبل الانتخابات العامة القادمة. وهكذا، تبقى الأسئلة مفتوحة حول ما إذا كانت هذه التحقيقات خطوة نحو الشفافية أم أداة لإعادة ضبط موازين القوى بين الحكومة والمعارضة.

