تقرير: ياوز أجار
على الرغم من وفاة فتح الله كولن في منفاه الذي استمر 25 عاماً في الولايات المتحدة، أشاد وزير الداخلية التركي علي ييرليكايا بمواصلة ما وصفه بـ”عمليات مكافحة الإرهاب” ضد أفراد يُزعم ارتباطهم بحركة الخدمة، حيث أعلن عن تنفيذ مداهمات واسعة النطاق صباح اليوم أسفرت عن اعتقال 459 شخصاً في 66 ولاية.
وفي مقطع فيديو معدّ مسبقاً، أعلن ييرليكايا أن العمليات نُفذت بتنسيق بين رئاسة الاستخبارات التابعة للمديرية العامة للأمن، ورئاسة مكافحة الجرائم المنظمة، ورئاسة مكافحة الإرهاب. وقد شملت ولايات عديدة، من بينها إسطنبول وأنقرة وبورصة وإزمير وأنطاليا وديار بكر وأدرنة وأرزينجان وغيرها. وأشار إلى أن عمليات “كماشة-30” استهدفت أفراداً يُزعم استخدامهم تطبيق “بايلوك”، المزعوم بأنه أداة التواصل السرية بين أعضاء الحركة.
ورغم القرارات الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) التي تؤكد انتهاكات حقوق الإنسان في هذه القضايا، وصف الوزير هذه المداهمات بـ”النجاح”، مبرراً استمرارها بأنها ضرورة لمكافحة “الإرهاب”.
هذه الحملة تأتي في ظل انتقادات دولية مستمرة للحكومة التركية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان وغياب المحاكمات العادلة للأشخاص المستهدفين بهذه العمليات.
متى خطط أردوغان لمحاربة الخدمة؟
يذكر أن تاريخ 17 ديسمبر 2013، حيث نفذت القوات الأمنية عملية ضد شبكة فساد ورشوة دولية، تضم رجل الأعمال الإيراني رضا زراب، وبلال أردوغان، وأبناء أربعة وزراء في الحكومة، أعلنه أردوغان ميلادًا لحربه ضد حركة الخدمة، متهمًا أفراد الأمن الذين نفذوا هذه العملية بالانتماء إلى الحركة، وبالسعي للإطاحة به.
ومع أن أردوغان لم يوجه أي اتهامات “علنية” للحركة قبل فضيحة الفساد المذكورة (2013)، بل كان على علاقة قوية معها، نظرا لنفوذها الواسع في تركيا والعالم على حد سواء، لكن التصريحات التي أدلى بها مسئولون حكوميون وقيادات مقربة منه تدل على أنه خطط في وقت مبكر جدا لمحاربة هذه الحركة، التي تصف نفسها بأنها “حركة خيرية اجتماعية رافضة مبدئيا وعمليا كل أنواع العنف”.
اعتراف تاريخي!
فقد اعترف عبد القدير أوزكان، مستشار رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم، خلال تصريحات أدلى بها في 21 فبراير 2017، بأن رئيس الأركان العامة الأسبق ياشار بويوك آنيط أقنع أردوغان بخطر الخدمة وضرورة القضاء عليها في “اجتماع تاريخي” عقده الطرفان في 4 مايو 2007، أي قبل ست سنوات من عمليات الفساد والرشوة المذكورة. وكان كل من أردوغان وبويوك آنيط أكد للصحفيين في ختام هذا الاجتماع “أن مضمون الاجتماع سيبقى سرًّا حتى الموت إن لم يكشف عنه الطرف الآخر!”.
كما لفت مستشار رئيس الوزراء إلى أنه: “كان من المخطط إطلاق عمليات ضد حركة الخدمة في 2007، لكن لما انطلقت الحملات الأمنية في إطار قضية تنظيم أرجنكون (الموصوف في تركيا بالدولة العميقة) بعد شهرٍ من هذا الاجتماع تأجلت تلك العمليات بالضرورة إلى وقت لاحق”. وهذا ما أيده “بلجين بالانلي”، أحد الجنرالات المحكوم عليهم في قضية أرجنكون.
تدل اعترافات مستشار رئيس الوزراء -وهو ما أيدته الأحداث اللاحقة- على أن أردوغان كان يصنف كلاًّ من تنظيم أرجنكون وحركة الخدمة ضمن التهديدات التي تواجهه في طريق تأسيس النظام الرئاسي الذي أراد له أن يكون “بنكهة تركية”، على حد وصفه، لكنه كان يلاحظ أن تهديد أرجنكون أخطر وأعجل من التهديد الثاني؛ نظرًا لامتلاك هذا التنظيم قوة تحرك بها شتى أجهزة الدولة ضد حكومته، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية.
انتهاز الفرص لكسر الحصار
وكانت رئاسة الأركان العامة، التي كان يسيطر عليها جنرالات أرجنكون، أصدرت في 27 نيسان 2007 “مذكرة تحذيرية” لحكومة أردوغان على شكل بيان نشر في موقعها على الإنترنت، وقال عنه الجنرال ياشار بويوك آنيط المذكور إنه من حرر نصوصه. ومما جاء فيه: “بالتوازي مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية (2007) باتت العلمانية موضوع جدل كبير في البلاد مجددًا، وتراقب القوات المسلحة هذه الحالة بقلق. ويجب العلم بأن القوات المسلحة طرف في هذه المناقشات، وتدافع عن العلمانية وتعارض بشدة المناقشات الجارية والتعليقات السلبية، وبالتالي لا يساورنّ الشكّ أحدًا أنها ستظهر موقفها في هذا الأمر وستقوم بمهمّتها عند الضرورة… أولئك الذين يعارضون آراء القائد العظيم مصطفى كمال أتاتورك هم أعداء الجمهورية التركية وسيظلون كذلك. إن القوات المسلحة مصممة على القيام بمسؤوليتها التي يسندها لها القانون فيما يتعلق بحماية خصائص الجمهورية التركية غير القابلة للتغير”.
كما أن تنظيم أرجنكون حرض المحكمة الدستورية على فتح تحقيق بحق حزب العدالة والتنمية الحاكم في 14 مارس 2008، عن طريق المدعي العام الرئيسي لمحكمة النقض عبد الرحمن يالجين كايا، بتهمة “فرض الحكم الإسلامي وممارسة نشاطات مناهضة للعلمانية”.
في حالة التضييق هذه، انتهز أردوغان مبادرة أجهزة الأمن والقضاء إلى إطلاق تحقيقات ضد رجال وجنرالات أرجنكون بعد شهر من الاجتماع التاريخي المذكور فرصة مواتية لكسر أجنحة أرجنكون أو “الدولة العميقة”، مؤجلاً تنفيذ خطة القضاء على حركة الخدمة إلى وقت لاحق، منتظرًا الفرصة السانحة، كما اعترف مستشار رئاسة الوزراء.
نية أردوغان المبيتة!
في حين قدم كولن تاريخًا أقدم لخطة أردوغان (السرية في البداية) ضد حركة الخدمة، إذ ذكر في مقابلة متلفزة أن عداء أردوغان للخدمة لم يكن وليد الأحداث بل كانت نيته مبيتة للقضاء عليها منذ أن قرر تأسيس حزب العدالة والتنمية “إذا تمكن من السلطة” في حال عدم خضوع الحركة له.
فقد قال كولن في أكثر من حوار تلفزيوني إنه التقى بأردوغان ذات مرة عندما كان رئيسًا لبلدية إسطنبول وهو أيضًا ذهب لزيارته مرة، ثم أضاف قائلاً: “عندما جاءني ليستشيرني في موضوع تأسيس حزب جديد منشق عن حزب الرفاه، عبّرت له عن وجهة نظري، وقلت إن كنتم مصمّمين على الانشقاق، فمن اللياقة أن تفعلوا ذلك دون أن تسيئوا إلى السيد نجم الدين أربكان، ثم ها أنتم ترون الانقلابات العسكرية تتعاقب الواحد تلو الآخر في تركيا، فمن الأفضل أن تحسّنوا العلاقة مع المؤسسة العسكرية. لكنه قال للسيد المرافق له في المصعد وهو يغادر المكان ’ينبغي القضاء على هؤلاء أولا‘”.
التدريج في تجريم الحركة
ومن ثم اعتبر أردوغان إقدام مؤسسة القضاء وأجهزة الأمن على عمليات الفساد والرشوة في 2013 فرصة للشروع في تنفيذ خطته المدروسة جيدًا لمحاربة حركة الخدمة بصورة تدريجية كان بدأ التمهيد لها بالفعل قبل سنوات من بدء تحقيقات الفساد، حيث زعم أن تلك العمليات الأمنية نفذها أفراد أمن وقضاء على صلة بالحركة من خلال تلفيق أدلة، ليبدأ بعد ذلك في وصف الحركة بـ”الكيان الموازي”.
لكن رفض كولن جميع مزاعم “الكيان الموازي” وتحدى أردوغان من خلال محاضرة ألقاها على محبيه في 21 ديسمبر 2013 قال فيها: “سأقول كلامًا لم أقله من قبل أبداً.. إني لا أعرف المدعين العامين الذين تعقبوا مرتكبي الأفعال السيئة من أبناء الوزراء، ولا أعرف واحدًا بالألف منهم، غير أن البعض ينسب القائمين على هذه الحملة إلينا وحركة الخدمة، ويرانا متعاونين فيها.. لذلك أنا أقول ولا أستثني نفسي: إذا كان من قام بهذه الحملة قد ارتكب أمرًا مخالفًا لروح الدين الإسلامي، ومخالفًا لمبادئ القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وللقوانين الحديثة، ومنافيًا للديمقراطية، فأسال الله عز وجل أن يخسف بنا وبهم الأرض، وأن يملأ بيوتنا وبيوتهم نارا، وأن يهدم على الجميع جدرانهم. ولكن إذا كان الأمر خلاف ذلك، بمعنى أن يرى البعضُ اللصوصَ ويتركونهم ويطلقون سراحهم، ويهاجمون في نفس الوقت من يرشد عليهم ويكشف الغطاء عنهم، ويغمضون أعينهم عن الجريمة، ويتهمون الأناس الأبرياء بارتكابها من أجل تشويه سمعتهم، فأسال المولى عز وجل أن يحرق عليهم بيوتهم، وأن يزلزلهم ويشتِّت شملهم ويمزق وحدتهم وأن لا يبلغهم الأمل”.
اختراع جرائم مطاطة
أردوغان لم يكتفِ بمعاقبة الضباط وأعضاء الهيئة القضائية التي أشرفت على تحقيقات الفساد قانونيًّا بجرائم ينص عليها القانون التركي من أمثال “سوء استخدام السلطات” و”تجاوز المهام القانونية”، بل سن قوانين جديدة يستطيع من خلالها اعتقال جميع “المعارضين غير المرغوبين” من جانب، وتمكنه من السيطرة التامة على كل أجهزة الدولة من جانب آخر. فاتجه إلى سنَّ تهمة “الانتماء إلى الكيان الموازي”، وقانون آخر باسم “قانون الاشتباه المعقول” وغيرها من القوانين الجديدة التي ليس لها تعريف محدد دستوريًّا وقانونًّيا، فاستطاع من خلالها أن يزج بعدد كبير من معارضيه في السجون والمعتقلات، ويعزل عددًا كبيرًا من وظائفهم ليحل محلهم موالين له. ومن جانب ثالث، أجرى تغييرات جذرية في الهيئة القضائية ونجح في هيكلة مجلس القضاء الأعلى من خلال عدة تغييرات على نظامها، وعين فيها موالين له أيضًا، وأسس محاكم جديدة أطلق عليها “محاكم الصلح الجزائية” استخدمها أداة للتخلص من المغضوب عليهم.
فشل في إقناع الجيش
بعد ذلك حاول أردوغان استصدار قرار مشترك من جميع أجهزة الدولة يصنف حركة الخدمة “تنظيماً إرهابيًّا”، إلا أنه لم يستطع أن ينفذ تلك الحملات المضادة في المؤسسة العسكرية، حيث قال رئيس الأركان في ذلك الوقت نجدت أوزيل بشأن الضغوط عليه فيما يتعلق بتصفية “أعضاء الكيان الموازي” في الجيش: “القوات المسلحة لا تتحرك إلا في إطار الأدلة والوثائق. لقد طالبنا كلاًّ من الأمن والاستخبارات بتزويدنا بمعلومات في هذا الموضوع، غير أنه لم تصلْنَا أية معلومات عنهما، فلا يمكننا إطلاق عمليات بناءً على بلاغات غير موقعة ولا يعرف مصدرها. نحن نقوم بما يلزم في إطار القوانين”.
لكن لم ييأس أردوغان واستمر في البحث عن طرق لإقناع الجيش أو إجباره على اتخاذ موقف صارم مما سماه الكيان الموازي. ففي الأيام التي سبقت اجتماع أعضاء مجلس الأمن القومي في 31 نوفمبر 2014، أكد أردوغان أنه سيتم النظر في أولويات وتهديدات الأمن القومي وتحديدها من جديد، وأن الكيان الموازي سيتم ضمّه إلى “قائمة المنظمات المهددة للأمن القومي”، وذلك تمهيدًا لإعلانه تنظيمًا إرهابيًّا في وقت لاحق.
غير أنه عندما نُشر البيان الختامي لاجتماع الأمن القومي، الذي يتكون معظم أعضائه من العسكريين، تحطمت آمال أردوغان، إذ لم يتضمن البيان أي إشارة إلى “حركة الخدمة” أو “الكيان الموازي”، وإنما ورد فيه عبارة “كيانات غير شرعية تحت غطاء شرعي” بصيغة الجمع، العبارة التي كانت تشير حينها عامة إلى اتحاد المجتمعات الكردستانية والهيئة الإدارية العليا لحزب العمال الكردستاني، الذي عمل على تشكيل كيانات موازية للدولة في المدن الشرقية والجنوبية الشرقية من خلال تأسيس محاكم خاصة به وإجراء محاكمات بعيدًا عن المحاكم الرسمية.
وأفادت الأنباء أن أعضاء مجلس الأمن القومي العسكريين، وكذلك رئيس وزراء تلك الفترة أحمد داود أوغلو، فضلوا استخدام عبارة “الكيانات الموازية” في البيان، رافضين عبارتي “الكيان الموازي” أو “حركة الخدمة” اللتين كان يصر أردوغان على ذكر أحدهما على الأقل في البيان، مما دل على تباين في الآراء بين أردوغان وداود أوغلو من جانب، وبين أردوغان والجيش من جانب آخر.
واعترف داود أوغلو في تصريحات صادمة أدلى بها في 2019 بأنه كان يجب إقالته من منصب رئاسة الوزراء ورئاسة حزب العدالة والتنمية حتى يمكن تنفيذ عديد من المشاريع، وذكر من بينها “محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016” التي اتهم أردوغان حركة الخدمة بالوقوف وراءها.
أردوغان يجد ضالته!
أخيرًا تمكن أردوغان من إعلان حركة الخدمة تنظيما إرهابيا عقب وقوع ما سمي بـ”الانقلاب الفاشل” في 2016، حيث اتهمها بالوقوف وراء هذا التحرك، وشرع في تضييق الخناق على كل من له صلة بها، في الداخل والخارج، مما أسفر عن مقتل عديد منهم، واعتقال عشرات الآلاف رجالا ونساء، واختطاف قسم منهم من خارج البلاد.
في حين نفت الحركة أي علاقة لها بمحاولة الانقلاب، ودعت أردوغان لتشكيل لجنة دولية لتقصي حقائق ما حدث في ليلة “الانقلاب الفاشل”، إلا أن الأخير لم يستجب لهذه الدعوة حتى اليوم.
واعتبرت حركة كولن أحداث ليلة الانقلاب الفاشل من قبيل عمليات الراية المزيفة (false flag) يقف وراءها أردوغان نفسه لينجح في وصم الحركة بالإرهابية بعد أن فشل في ذلك، وتصفية الجنرالات المعارضين لمشاريعه العسكرية في سوريا وعموم المنطقة. مصطلح “الراية المزيفة” يُستخدم لوصف عمليات سرية تُنفذها جهة معينة بحيث يتم إخفاء الهوية الحقيقية للمنفذين وتوجيه التهمة لمجموعة أو دولة أخرى، بهدف خلق انطباع بأن الطرف الذي تم اتهامه زورًا هو من قام بالعمل، وذلك لتحقيق أهداف عسكرية أو سياسية أو استخباراتية. تُستخدم هذه الاستراتيجية في الغالب للتأثير على الرأي العام أو لتبرير أفعال وعمليات معينة لا يسمح لها الدستور والقوانين ولا يسوغها الجمهور في العادة.
ورغم عديد من الأحكام الصادرة من المحاكم الدولية، تستمر السلطات التركية في تنفيذ اعتقالات وملاحقات جماعية يوميا ضد المتعاطفين مع حركة الخدمة، كما حدث اليوم حيث طالت الاعتقالات حوالي 500 شخص في يوم واحد فقط.