لم تهدأ موجة الاحتجاجات التي اندلعت في تركيا منذ توقيف رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، إذ لا تزال التجمعات الغاضبة تتواصل في مختلف أنحاء البلاد، لا سيما في صفوف الطلبة والشباب، بعد مرور أكثر من شهر على اعتقال أبرز وجوه المعارضة.
وقد ألقي القبض على إمام أوغلو، المنتمي إلى حزب الشعب الجمهوري، أبرز أحزاب المعارضة التركية، في 19 مارس الماضي، قبل أن يُحال إلى الحبس الاحتياطي بتاريخ 23 من الشهر ذاته، في إطار تحقيق يتعلق بملف فساد. وبالرغم من سجنه، أعلنت قيادة الحزب ترشيحه للانتخابات الرئاسية المقررة في عام 2028، باعتباره المنافس الرئيسي للرئيس رجب طيب أردوغان.
تصاعد الحراك من إسطنبول إلى الجامعات والمدارس
ومنذ لحظة توقيفه، شهدت ساحة بلدية إسطنبول وقفات احتجاجية ليلية، امتدت في وقت وجيز إلى محافظات أخرى، في أكبر موجة احتجاج تشهدها البلاد منذ احتجاجات “غيزي بارك” عام 2013. ورغم التراجع المؤقت في وتيرة المظاهرات خلال شهر رمضان، عادت من جديد خلال الأيام العشرة الأخيرة، متخذة من الجامعات التركية، خاصة في إسطنبول وأنقرة، نقاط انطلاق جديدة.
لكن اللافت أن دائرة الحراك اتسعت لتشمل عشرات المدارس الثانوية، مدفوعة بقرارات حكومية أثارت جدلاً واسعاً، أبرزها إعادة تعيين عدد من المعلمين في مدارس معينة، وهو ما اعتبره منتقدو الحكومة خطوة سياسية تستهدف الهيمنة الأيديولوجية على قطاع التعليم.
غضب شبابي ومطالب بالحريات
وفي هذا السياق، صرحت أستاذة علم الاجتماع في جامعة يدي تبه بإسطنبول، ديميت لوكسلو، لوكالة الصحافة الفرنسية بأن “حالة السخط المتراكمة منذ فترة طويلة تحولت، منذ منتصف مارس، إلى شكل أكثر علانية من الرفض الشعبي”.
وأكدت العديد من الشهادات أن الشباب ينظرون إلى هذه الاحتجاجات باعتبارها صرخة ضد ما يرونه نزعة متزايدة نحو المحافظة الاجتماعية، وللمطالبة بهامش أوسع من الحريات.
وفي حديثها للوكالة نفسها، قالت الطالبة الثانوية “إيدا”، البالغة من العمر 17 عامًا، إنها شاركت في احتجاج مدرستها، ووصفت التحرك بأنه “محاولة لكسر حاجز الصمت المفروض من قبل السلطات”، مشيرة إلى أن “بعض من تم توقيفهم لا يزالون قيد الاعتقال”.
بدء محاكمة جماعية لـ189 متظاهراً في إسطنبول
وقد شهد يوم الجمعة الماضي انطلاق محاكمة جماعية في إسطنبول شملت 189 متهماً، معظمهم يواجهون تهماً تتعلق بالمشاركة في مظاهرات غير مرخصة.
واحتشد مؤيدو الموقوفين أمام قصر العدل وسط إجراءات أمنية مشددة، وقال أحدهم، وهو طالب جامعي يُدعى “أحمد جان قبطان”: “نحن هنا من أجل أصدقائنا. لن نتركهم وحدهم”.
اضطرابات سياسية واقتصادية متزامنة
وتتزامن هذه الاضطرابات مع تقلبات اقتصادية لافتة، حيث تراجع مؤشر “بيست 100” في بورصة إسطنبول بنحو 14% خلال الثلاثين يومًا الماضية، كما هبطت الليرة التركية بنسبة 8% تقريبًا مقابل الدولار الأمريكي.
ورداً على هذه التطورات، ضخّ البنك المركزي التركي نحو 50 مليار دولار في الأسواق، ورفع سعر الفائدة الرئيسي إلى 46%، في أول خطوة من نوعها منذ مارس 2024.
حزب الشعب يواصل التحرك السياسي.. و”يوزغات” مفاجأة احتجاجية
في إطار الضغط السياسي من أجل إطلاق سراح إمام أوغلو، دعا رئيس حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزيل، إلى تنظيم مظاهرة جديدة يوم السبت في مدينة يوزغات، الواقعة في وسط الأناضول، ضمن سلسلة من الفعاليات الاحتجاجية التي ينظمها الحزب.
وشهدت ساحة المدينة تجمعًا لعدد كبير من المواطنين، بينهم مزارعون اصطفوا بجراراتهم في مشهد رمزي عبّر عن غضب سكان الريف من سياسات الحكومة، ولا سيما فيما يخص القطاع الزراعي.
وتجدر الإشارة إلى أن يوزغات تُعد من معاقل التيارات المحافظة والقومية، إذ حصل الرئيس أردوغان على 76% من أصوات الناخبين هناك في انتخابات 2023. إلا أن المفارقة برزت في الانتخابات المحلية لعام 2024، حين خسر مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم أمام منافس ينتمي إلى حزب إسلامي معارض أصغر حجماً.
رسالة من إمام أوغلو: يوزغات ليست ملكاً لأحد
خلال الفعالية، قرأ رئيس فرع الحزب الجمهوري في يوزغات، عبد الله ياشار، رسالة بعث بها إمام أوغلو من محبسه، قال فيها: “لا ينبغي لأحد أن يظن أن يوزغات ملك سياسي له. هذه المدينة ليست ملكاً لحزب أو شخص، بل هي ملك للجمهورية والديمقراطية والسيادة الوطنية.”
معاناة الفلاحين وتذمّر من سياسات الحكومة
من جهته، أعرب أحد الفلاحين المحليين في حديث لوكالة أنكا عن استيائه من ارتفاع أسعار الوقود والأسمدة، ومن تدني أسعار شراء القمح، قائلاً: “نقسم رغيف الخبز الواحد بيني وبين زوجتي”، وطالب الحكومة بالتخلي عن الحزبية والعمل على تلبية احتياجات المواطنين الجائعة.
وبذلك، تواصل قضية إمام أوغلو، وما رافقها من تداعيات اجتماعية واقتصادية، الكشف عن عمق التوتر في الشارع التركي، وسط تحديات سياسية متزايدة للحكومة، وتنامٍ ملحوظ في جرأة الشارع على التعبير عن مطالبه، سواء في المراكز الحضرية أو المناطق الريفية.

