في خضم الاضطرابات العالمية، يشهد العالم تآكلاً متسارعًا في منظومة القيم الأخلاقية التي شكّلت أساس التماسك الاجتماعي لقرون. القيم التي كانت تُعتبر بمثابة قواعد أخلاقية لا غنى عنها—كالالتزام بالكلمة، واحترام الكرامة، والصدق في الخطاب والسلوك—أصبحت تُقوَّض على يد أنظمة تستغلها لتكريس السلطة والهيمنة.
ومع أن التاريخ يُظهر أن المجتمعات تميل إلى العودة إلى قيمها الجوهرية بعد فترات الاضطراب، إلا أن ما نشهده اليوم يتجاوز التقلّبات المؤقتة، ويمثّل تهديدًا ممنهجًا للقيم الديمقراطية، ولأحد أبرز ضحايا هذا الانحدار: الصحافة الحرة.
القيم الأخلاقية في مواجهة السلطوية
لا تتحطم المجتمعات فجأة، بل تُستنزف تدريجيًا حين تُستخدم القيم ضد نفسها. فحين يُشوَّه مفهوم “العدالة”، وتُستغل “الديمقراطية” كأداة لتجميل الاستبداد، يصبح الحديث عن التعايش والعدالة والمساءلة ترفًا لا تحتمله الأنظمة القائمة على القمع.
عندما يتم توجيه الغضب الشعبي نحو خصوم وهميين بدلًا من مساءلة السلطة، وعندما يُشيطن الإعلام المستقل، فإننا أمام مشهد تتلاشى فيه الحدود بين الحوكمة والسيطرة، بين إدارة الدولة وتكميم المجتمع.
الخوف من الجمهور: السلطة وهاجس الحشد
التاريخ السياسي للبشرية يظهر أن الأنظمة، بمختلف أشكالها، تخشى التعبئة الشعبية أكثر من أي شيء آخر. فحتى أكثر النظم قمعًا تضطر إلى التظاهر بالإصلاح حين يتراكم الغضب العام.
تستخدم السلطات أدوات مختلفة—الأجهزة الأمنية، والرقابة القضائية، اولإعلام الموالي—لكبح الأصوات المستقلة. لكنها تفشل غالبًا في فرض سيطرة كاملة، فيلجأ أصحاب السلطة إلى تقديم “قرابين” سياسية، كاستقالة مسؤول أو تعديل قانوني، دون المساس بجوهر المنظومة.
الضمير في مواجهة القسوة: سؤال الاختيار
في خطاب شهير عام 2009، قال الكاتب التركي أحمد ألتان: “الإنسان عنيف، ككل الكائنات الحيّة، لكنه يملك شيئًا يميّزه: الضمير.”
هذا الضمير، حسب ألتان، هو ما يدفع الإنسان للوقوف إلى جانب الضعيف ومواجهة الظلم، وهو ما يشكّل جوهر الهوية الفردية والمجتمعية. فالسؤال الذي يواجهه كل فرد ومجتمع هو: أي جزء من أنفسنا نختار أن نُنمّي؟
ذلك الاختيار لا يحدث مرة واحدة، بل يتجدد يوميًا في كل موقف، ويحدد شكل المؤسسات، وشرعية السلطة، ومصداقية الإعلام.
الإنترنت: مساحة الحرية الأخيرة… تحت الحصار
مع تقلّص المساحات العامة للتعبير بفعل القمع والمراقبة، تحوّلت الإنترنت إلى الملاذ الأخير للصحافيين المستقلين. لكنها بدورها بدأت تفقد هذه الصفة.
خلال العقدين الماضيين، كانت منصات التواصل الاجتماعي وسيلة فعالة لنشر المعلومات بسرعة، ولفضح الانتهاكات، وتنظيم الحملات المدنية. غير أن هذه الساحة باتت هي الأخرى تحت الحصار.
التحوّل الرقمي السريع، المدفوع بالذكاء الاصطناعي، غيّر المشهد الإعلامي بشكل جذري. فخوارزميات المنصات تتحكم اليوم في من يرى ماذا، ومن لا يُرى إطلاقًا. وهذا التحكم الخفي في “الوصول” يترجم إلى تحكم فعلي في الرأي العام، دون الحاجة إلى رقابة مباشرة.
الصحافة المستقلة تنزف: من القمع إلى الاختفاء الرقمي
كثير من الصحافيين يشيرون إلى ظاهرة ملموسة: ما كان يصل إلى مئات الآلاف من المتابعين بات بالكاد يصل إلى آلاف قليلة.
هذا الانحدار في الوصول لا يقتصر على الأرقام، بل ينعكس مباشرة على الموارد المالية للمؤسسات الإعلامية الصغيرة، والتي تعتمد على حركة الزيارات والإعلانات. ومع تراجع الدخل، تتراجع التحقيقات الجادة، وتُحرم المجتمعات من روايات بديلة تكشف الفساد وتسلّط الضوء على الانتهاكات.
الذكاء الاصطناعي يزيد الطين بلّة، إذ تُستخدم تقنياته لاستخلاص محتوى الصحافيين ونشره عبر أدوات لا تنسب إليهم المحتوى، ولا تُعيد لهم العائد المالي. النتيجة؟ استفادة الشركات الكبرى مثل غوغل من عمل الصحافة دون مقابل.
منصات التكنولوجيا: هيمنة بلا مساءلة
حتى المؤسسات الإعلامية الكبرى ليست بمأمن. فقد أعلنت “Mail Online” البريطانية مؤخرًا عن انخفاض في عدد زيارات الموقع بنسبة 50٪. أما المؤسسات الأصغر، لا سيما تلك العاملة على مستوى محلي أو تلك التي تكشف قضايا فساد، فإنها تواجه تهديدًا وجوديًا.
رغم توقيع بعض الشركات التقنية اتفاقيات ترخيص مع مؤسسات كبرى، إلا أن معظم المنصات المستقلة تُستثنى، وتُترك لمواجهة المصير وحدها. هذه الثنائية تُعيد تشكيل المشهد الإعلامي، وتدفع بالمحتوى المتنوع والنقدي إلى الهامش.
البديل: تنسيق، تعاون، ومقاومة جماعية
ما هو الحل؟
لا يمكن للأصوات المستقلة النجاة بمفردها. المطلوب هو تنسيق الجهود بين الصحافيين، ومنظمات الدفاع عن حرية التعبير، والمؤسسات الإعلامية. لا بد من بناء آليات تمويل جماعي، وأطر قانونية لحماية المحتوى، وشبكات دعم تتجاوز الحدود الوطنية.
فالصحافة المستقلة ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة مجتمعية لصون الحقيقة والمساءلة.
خاتمة: الضمير كأسمى أشكال المقاومة
رغم قتامة المشهد، يبقى الأمل في الضمير الإنساني.
التاريخ يُظهر أن المجتمعات، وإن طال انحدارها، تعرف طريق العودة إلى القيم التي تحفظ إنسانيتها.
الصراع الحقيقي ليس فقط على المعلومات، بل على المعنى، على الخيار اليومي بين الصمت والتواطؤ، أو النُطق والمقاومة.
منقول: طارق توروس، موقع “توركيش مينوت”

