عرقلت محكمة نيويورك الفدرالية محاولة تركيا استهداف معارضين عبر النظام القضائي الأمريكي، مؤكدة أن المساعي تنبع من دافع سياسي لا قضائي.
في تطور قضائي لافت، وجهت محكمة نيويورك الفدرالية الجنوبية صفعة جديدة لمحاولات النظام التركي ملاحقة معارضيه في الخارج، وذلك برفضها طلباً رسمياً تقدمت به الحكومة التركية للكشف عن السجلات المالية لخمسة أشخاص من المقيمين في الولايات المتحدة، بينهم جودت تركيولو، أحد المقربين إلى الراحل فتح الله كولن سابقاً، ملهم حركة الخدمة.
القرار الصادر في الأول من أغسطس 2025 عن القاضي الفدرالي جون بي. كرونان، جاء بعد سلسلة من المحاولات المتكررة التي لجأت فيها أنقرة إلى المادة 1782 من القانون الفدرالي الأمريكي، في محاولة لاستصدار أوامر قضائية تتيح لها الوصول إلى معلومات مالية وشخصية عن خصومها السياسيين في الخارج، تحت ذريعة “دعم تحقيقات جنائية”.
ملخص خلفية الملف: من الاتفاقيات القانونية إلى استغلال الأنظمة الدولية
يعود أصل هذه الطلبات إلى اتفاقية المساعدة القانونية المتبادلة (MLAT) الموقعة بين الولايات المتحدة وتركيا عام 1979، والتي تتيح تبادل المعلومات في إطار تحقيقات قضائية حقيقية. إلا أن وزارة العدل الأمريكية تجاهلت مراراً الطلبات التركية، معتبرة أن معظمها يفتقر إلى أدلة حقيقية ويستند إلى دوافع سياسية بحتة، وهو ما حال دون عرضها على المحاكم الفدرالية.
في مواجهة هذا الرفض، لجأت أنقرة إلى وسيلة جديدة، متمثلة في التعاقد مع مكاتب محاماة أمريكية لرفع قضايا مباشرة في المحاكم تحت مظلة المادة 1782، التي تتيح تقديم طلبات للحصول على مستندات وشهادات لاستخدامها في قضايا أجنبية.
محاولات مشابهة سابقة
لم تكن قضية جودت تركيولو الأولى من نوعها؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة عدة طلبات تركية مشابهة، أبرزها قضايا مرفوعة ضد مدارس تعليمية مرتبطة بحركة الخدمة في ولايات إلينوي وأوهايو، ومحاولة جمع معلومات مالية من مؤسسات أمريكية مثل JP Morgan Chase وPNC Bank، ودعاوى زُعم فيها غسل أموال وتمويل إرهاب دون تقديم أدلة كافية.
قضاة أمريكيون رفضوا هذه الطلبات، مؤكدين أن تركيا تستخدم ذريعة القضاء لملاحقة الخصوم السياسيين، وأن الطلبات “تنبعث منها رائحة الخداع” وفقاً لتوصيف قاضية في ولاية أوهايو.
قضية تركيولو: التكتيك الجديد وسقوطه القضائي
في 3 ديسمبر 2024، قدمت تركيا عبر شركة المحاماة الأمريكية Nixon Peabody LLP طلباً إلى محكمة نيويورك الجنوبية للحصول على المعلومات المالية من بنكي Bank of America وWells Fargo تتعلق بـتركيولو. الملف لم يتضمن اتهامات الإرهاب أو الانقلاب المعتادة، بل استند إلى دعوى تعود إلى عام 2019 تتعلق بـ”التلاعب في سوق الأوراق المالية”، تحديداً بيع تركيولو أسهماً في بنك آسيا عام 2014 باستخدام معلومات داخلية.
ورغم قبول المحكمة في البداية التماس تركيا في 17 ديسمبر، تقدّم تركيولو في أبريل 2025 بطلب لإلغاء الأمر القضائي. وبعد مداولات قانونية، أصدر القاضي كرونان حكمه النهائي برفض الطلب التركي بالكامل، في قرار مفصّل من32 صفحة.
النقاط الحاسمة في قرار القاضي الأمريكي
تضمن القرار القضائي انتقادات مباشرة لطبيعة المسعى التركي، وجاء فيه عبارات من قبيل: “السياق السياسي لهذه القضية مزعج للغاية.. طلب تركيا مبالغ فيه، ويعكس نية سياسية واضحة.. الوثائق المقدّمة غير كافية وقديمة.. لا يوجد مسار قضائي واضح سيُستخدم فيه ما طُلب من بيانات.. الادعاءات المقدمة من الطرف التركي تفتقر إلى المصداقية.. حتى لائحة الاتهام التي أرسلتها تركيا لا تحتوي على أي دليل ملموس يدعم التهم”.
هذا القرار أتى ليعزز رفض القضاء الأمريكي تسييس أدوات القانون الدولي، كما أعاد إلى الواجهة المخاوف الأمريكية القديمة من استغلال أنظمة قانونية مثل المادة 1782 من قبل أنظمة استبدادية مثل روسيا، والصين وتركيا.
المعارضة الأمريكية تتحرك: حملة في الكونغرس
في 2 يوليو 2024، وقّع140 نائباً في الكونغرس الأمريكي رسالة موجّهة إلى الرئيس عبّروا فيها عن قلقهم العميق من حملة القمع التي تشنها تركيا ضد المعارضين في الخارج، وخاصة من ينتمون لحركة الخدمة، مؤكدين أن الدعاوى القضائية في أمريكا تُستغل كأداة للانتقام السياسي.
سلوك أردوغان تحت مجهر القانون الدولي
قضية تركيولو لا تمثل فقط رفضاً لإجراء قضائي، بل تعكس تحولاً عميقاً في كيفية نظر القضاء الأمريكي إلى سلوك النظام التركي في المحافل الدولية.فاستغلال القضاء لملاحقة المعارضين بات مكشوفاً، وأصبح جزءاً من نمط موثق من الانتهاكات السياسية للآليات القانونية الدولية.
هذا القرار يعزز قناعة بأن مؤسسات الولايات المتحدة، رغم تغير الحكومات والسياسات، ما زالت تحمي استقلال القضاء من التسييس الخارجي، وترفض تحويل أراضيها إلى امتداد لمطاردات أنظمة قمعية.

