منذ محاولة الانقلاب المثيرة للجدل في تركيا عام 2016، كثّفت حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان ملاحقتها للمعارضين، مستخدمة ذلك الحدث ذريعة لتوسيع نطاق القمع ضد الأصوات المعارضة في الداخل والخارج. وقد أدت هذه الحملة إلى اعتقال عشرات الآلاف في تركيا، فيما لجأ كثيرون إلى أوروبا هرباً من الملاحقات القضائية. غير أنّ أنقرة واصلت ملاحقتهم خارج البلاد، مستندة إلى وجود جاليات تركية كبيرة خصوصاً في ألمانيا والنمسا، ما أتاح لها تأسيس مؤسسات تُقدَّم ككيانات ثقافية أو دينية، لكنها متهمة بالعمل كأذرع دعائية وأمنية للحكومة.
قرارات قضائية تكشف المخاطر
محكمة ألمانية في كولونيا منحت اللجوء السياسي لنشطاء أتراك في مايو الماضي، مستندة إلى معلومات أعدتها السلطات النمساوية، والتي أكدت أنّ أنقرة تراقب معارضيها في الخارج وتستخدم مشاركتهم في جمعيات بألمانيا كذريعة لملاحقتهم عند العودة.
الأحكام شملت ناشطاً كردياً وآخر من أتباع حركة فتح الله كولن، إذ رأت المحكمة أن خطر الملاحقة القضائية في قضايا “الإرهاب” بتركيا يستند إلى ممارسات ممنهجة تستهدف المعارضين.
وفي يونيو، أوقفت محكمة نمساوية قرار ترحيل شخص إلى تركيا، معتبرة أن منظمات مرتبطة بالدولة التركية تلعب دوراً في تحديد وتتبع المعارضين داخل الجاليات التركية في أوروبا، وهو ما يُشكل خطراً جدياً على حياة وأمن الأفراد.
المؤسسات المتهمة بالتجسس
التقارير النمساوية الرسمية التي استشهدت بها المحاكم حدّدت عدداً من المؤسسات كأدوات رئيسية في مراقبة المعارضين: رئاسة شؤون الأتراك في الخارج والمجتمعات ذات الصلة، ووكالة التعاون والتنسيق التركية، ورئاسة الشؤون الدينية (ديانت)، إضافة إلى اتحاد الديمقراطيين الأتراك الأوروبيين الذي تحوّل لاحقاً إلى اتحاد الديمقراطيين الدوليين، وكذلك مؤسسة الأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية. هذه الكيانات – بحسب الوثائق – شاركت في عمليات استخباراتية سرية خارج تركيا، وساهمت في جمع معلومات عن المنتقدين، ليس فقط من أنصار حركة غولن بل أيضاً من أصوات معارضة أخرى.
شهادات وتحذيرات حقوقية
الدكتور حسين دمير، أستاذ القانون ورئيس جمعية “المدافعون عن حقوق الإنسان” في برلين، أكد أن الأحكام القضائية الأخيرة تكشف “حقائق لا يمكن إنكارها” بشأن استخدام مؤسسات ثقافية ودينية كغطاء لعمليات المراقبة. وأوضح أن هذه الأنشطة تمثل تهديداً واسعاً لحرية التعبير وحق التجمع والأمان الشخصي للجاليات التركية في أوروبا.
وأشار دمير إلى أنّ موظفين رسميين داخل هذه المؤسسات تجاوزوا صلاحياتهم وارتكبوا أفعالاً تندرج ضمن جرائم، مطالباً بإجراء تحقيقات مستقلة تكشف التمويل والعلاقات والأنشطة التي تنتهك الحقوق الأساسية وتنشر الخوف بين المعارضين.
أبعاد سياسية ودبلوماسية
هذه القضية ليست معزولة؛ إذ سبق أن داهمت الشرطة الألمانية عام 2017 منازل أئمة مرتبطين بالديانت للاشتباه في تجسسهم على أنصار حركة كولن، كما استدعت هولندا السفير التركي عام 2016 بعد تسريب قوائم بأسماء معارضين أُعدّت من قبل موظفي الشؤون الدينية. وفي النمسا، أعلن وزير الداخلية فتح تحقيق واسع في أنشطة تجسس مرتبطة بأجهزة الاستخبارات التركية.
أما في حالات أخرى، فقد شهدت أوروبا عمليات ترحيل قسرية مثيرة للجدل، مثل اختطاف ستة أتراك من كوسوفو عام 2018، وفتح تحقيقات في سويسرا حول خطط خطف يُزعم أنها مرتبطة بدبلوماسيين أتراك.
بين الرواية الرسمية والانتقادات
في المقابل، تواصل أنقرة الدفاع عن هذه المؤسسات باعتبارها أدوات “دبلوماسية ثقافية” لتعزيز الروابط مع الجاليات التركية، كما صرّح رئيس البرلمان التركي نعمان كورتولموش الذي أثنى على دور هذه المؤسسات ومعهد يونس إمرة في نشر الثقافة التركية. لكن المنظمات الحقوقية الأوروبية ترى في هذه الأنشطة شكلاً من “القمع العابر للحدود”، الذي يجمع بين التجسس والضغط على العائلات وإصدار نشرات إنتربول.

