تقرير: ياوز أجار
يبحث الرأي العام في تركيا عن أجوبة على تساؤلات تدور حول التصريحات المثيرة التي أدلى بها زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي حول نسخة جديدة من مفاوضات السلام مع عبد الله أوجلان لحل حزب العمال الكردستاني المسلح.
“هل جاءت تصريحات بهجلي حول أوجلان بتنسيق مع حليفه السياسي الرئيس رجب طيب أردوغان؟”، و”هل كان بهجلي على علم بحملة إقالة رؤساء البلديات المنتخبين وتعيين الأوصياء عليها من قبل أردوغان”، تأتي بين أبرز الأسئلة التي تشغل العقول ولم تتمكن كواليس أنقرة من الإجابة الصريحة عليها حتى اللحظة.
التسلسل الزمني للأحداث:
1) التحضير لعملية “انفتاح” جديدة
كان التحالف الحاكم بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية خطط سويا طيلة الصيف لعملية انفتاح جديدة في سبيل تسوية القضية الكردية، والتفاوض مع حزب العمال الكردستاني لترك السلاح، في الوقت الذي كان يحاول التعافي من صدمة الهزيمة التي مني بها في الانتخابات المحلية الأخيرة عام 2019.
وفي هذا الإطار، أطلق التحالف الحاكم حوارًا مع كل من حزب السلام والديمقراطية للشعوب المؤيد للأكراد وعبد الله أوجلان الذي قضى 25 عامًا في سجن “إيمرالي” قرب مدينة بورصا، غير أن هذه العملية تعرضت لتوقف مفاجئ في 22 أكتوبر.
ومما يدل على ذلك الحوار والتفاوض بين الأطراف المذكورة المقترحُ القانوني الذي قدمه الحرب الكردي في نهاية سبتمبر المنصرم للسماح لعبد الله أوجلان بالخروج من السجن إلى الإقامة الجبرية، وهو مطلب صادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) في 2014 أيضًا.
واستمرارًا لتحركات الحوار، توجه بهجلي إلى صفوف الحزب الكردي يوم افتتاح البرلمان في 1 أكتوبر، معلقًا على خطوته في وقت لاحق: “لن نقدم يدنا لأحد بلا سبب!”. في حين أيد أردوغان تصريح حليفه قائلاً: “نأمل أن يتم تقدير اليد الممدودة من تحالف الجمهور بالشكل الذي يليق بها.”
2) تصريحات بهجلي حول أوجلان
وفي 10 أكتوبر، كتبت أمبرين زمان، الكاتبة في “المونيتور” والزميلة في “السياسة العامة” في “برنامج الشرق الأوسط” في “مركز ويلسون”، أن أوجلان بعث رسالة إلى قيادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل بشمال العراق قائلاً: “لقد حان الوقت لمناقشة وقف إطلاق النار.”
تلا ذلك في 15 أكتوبر إطلاق بهجلي أول دعوة له لأوجلان، مع علم أردوغان، من خلال المجموعة البرلمانية لحزب الحركة القومية قائلاً: “إذا كان زعيم الإرهابيين مستعدًا لإعلان نهاية الإرهاب وتصفية منظمته بشكل أحادي، عليه أن يفعل ذلك.”
ونظرًا لأنه موصوف في تركيا بـ”اليميني القومي المتطرف”، ومستغرب منه الدعوة للحوار مع زعيم دأب على وصفه بـ”رأس الإرهابيين”، اتجه بهجلي إلى عقد اجتماعات لإقناع قاعدته الشعبية بعملية الانفتاح الجديدة والسيطرة على الأصوات المعارضة المحتملة.
تدل الأمارات على أن طرفي التحالف الحاكم تحركا حتى ذلك التاريخ (15 أكتوبر) بتنسيق مشترك، لكن التطورات اللاحقة في هذا الشأن كانت مفاجئة!
3) التطورات المفاجئة في 22 أكتوبر
في خطاب جماعي بالبرلمان في 22 أكتوبر، خطا بهجلي خطوة إلى الأمام ووجه دعوة جديدة لأوجلان رفع فيها المستوى قائلا: “فليأتِ ولْيَتَحدثْ في البرلمان ولْيعلن عن نهاية الإرهاب وتصفية منظمته”. أي أنه دعا “رأس الإرهابيين المسؤول عن قتل عشرات الآلاف من الأبرياء” – على حد وصفه – إلى البرلمان، وتحدث عن إمكانية العفو عنه شريطة حل “المنظمة الإرهابية”.
وفي نفس اليوم، أكد فتي يلديز، وهو أحد الأسماء البارزة في حزب الحركة القومية، عبر منصة x قائلا: “يوم 22 أكتوبر هو نقطة تحول وميلاد جديد في السياسة التركية”، منوهًا بأنه من الآن فصاعدًا، ستكون التحليلات والتقييمات السياسية على أساس “قبل وبعد 22 أكتوبر”، على حد تعبيره.
في 23 أكتوبر، أي بعد يوم من دعوة بهجلي المثيرة، شنّ حزب العمال الكردستاني هجومًا دمويًّا على شركة “توساش” التركية لصناعات الفضاء، الهجوم الذي اعتبره الكاتب المخضرم ممتازر تركونه ذو التوجه القومي “ردًا على تصريحات بهجلي من خارج الملعب”. بينما لم يتراجع بهجلي من موقفه الصارم، مشددًا على أن “الذين دفعوا القتلة المستأجرين إلى الساحة لن يستطيعوا تحقيق أحلامهم، كما أنهم لن ينجحوا في كسر عزيمتنا.”
هذا الهجوم الإرهابي “مهد الطريق” لوزارة الداخلية للإقدام على إقالة رئيس بلدية “أسنيورت” في إسطنبول المنتمي لحزب الشعب الجمهوري المعارض في 30 أكتوبر، وفرض وصاية عليها، بدعوى الصلة بحزب العمال الكردستاني، الخطوة التي رأتها المعارضة من قبيل “جس النبض” لتفقد ما إذا كان بالإمكان فرض الوصاية بنفس التهمة على بلديتي أنقرة وإسطنبول أيضًا، وقطع الطريق أمام ترشح رئيسهما منصور يافاش وأكرم إمام أوغلو لمنصب الرئاسة في الانتخابات القادمة.
وزعم الكاتب الصحفي المقرب من كواليس أنقرة إسماعيل سايماز أن أردوغان أمر رئيس المخابرات إبراهيم كالين بالبحث عن أي ذريعة مناسبة لفرض وصاية على بلدية أنقرة وإسطنبول، مما دفع زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزجور أوزيل إلى التحذير قائلا: “أوصي حزب العدالة والتنمية بعدم الإقدام على مثل هذا الإجراء مرة أخرى. عندما جربوه في عام 2019، دفع الشعب ثمناً باهظاً”، في إشارة منه إلى إعادة أردوغان الانتخابات البلدية في إسطنبول عام 2019 بغية استرداد رئاسة البلدية بعد أن اختطفها أكرم إمام أوغلو من مرشح حزب العدالة والتنمية، لكن الناخبين أيدوا إمام أوغلو مرة أخرى في الانتخابات المعادة ليسبق خصمه بزيادة بلغت 10٪. كما أن إمام أوغلو أجرى زيارات إلى زعماء الأحزاب المعارضة بهدف تشكيل سدّ ديمقراطي أمام مساعي الحكومة غير القانونية الرامية إلى فرض الوصاية على البلديات البارزة.
تأتي هذه الخطوات امتدادًا لتحركات أردوغان في السنوات الأخيرة لخلق “صلة” بين حزب الشعب الجمهوري وحزب المساوات والديمقراطية “الشرعي” من جانب، وحزب العمال الكردستاني “المحظور” من جانب آخر، ليفتح الطريق أمام اتهامه بالإرهاب، ويمارس الضغوط على أحزاب المعارضة لتشارك في تعديلات دستورية تضمن له الترشح لولاية رئاسية جديدة.
4) مفترق الطرق
ورأى مجموعة من المحللين السياسيين، منهم الكاتب الصحفي طارق توروس، أن بهجلي لم يكن على علمِ بخطوة فرض الوصاية على بلدية أسنيورت من قبل وزارة الداخلية، مما شكل عاملًا آخر لزيادة المسافة بين الحليفين واختلاف رؤاهما في التطورات السريعة.
بعد بلدية أسنيورت في إسطنبول، قررت وزارة الداخلية هذه المرة فرض الوصاية على بلديات ماردين وباتمان وحلفتي في 4 نوفمبر، وكلها مناطق استراتيجية تتعلق بالرسائل السياسية الموجهة إلى بهجلي. يبدو أن اختيار تلك البلديات الكردية كان مقصودًا، حيث إن رئيس بلدية ماردين أحمد ترك سياسي كردي مخضرم معروف بمواقفه الداعمة للسلام، ويتمتع بعلاقات طيبة مع بهجلي، كما أن منطقة حلفتي هي مسقط رأس عبد الله أوجلان.
فرض الوصاية على البلديات الكردية الثلاث قصم ظهر البعير وأثار غضب بهجلي، حيث أكد بعد يوم (5 نوفمبر) مرة أخرى وأكثر صرامة ووضوحًا من السابق قائلا: “أنا متمسك بموقفي ومصرّ على عرضي واقتراحي. فإذا كان زعيم الإرهاب مستعدًا لإعلان نهاية الإرهاب وتصفية حزب العمال الكردستاني، فليأتِ إلى المجموعة البرلمانية لحزب المساواة والديمقراطية للشعوب وليعلن ذلك”. فضلًا عن أنه وضع كلا من أوجلان وأردوغان في كفة الميزان ذاتها قائلا: “في حال القضاء على الإرهاب تمامًا، ألا يكون من الطبيعي والصواب أن يُنتخب أردوغان مرة أخرى؟ وأَلَنْ يكون تنفيذ التعديلات الدستورية الضرورية لتحقيق ذلك بين أولى واجباتنا في المرحلة القادمة؟”.
5) القلق في قصر أردوغان
قال الكاتب الصحفي طارق توروس إن تصريحات بهجلي أحدثت أثر القنبلة في قصر أردوغان، حيث ألمحت تلك التصريحات إلى أنه، أي أردوغان، يجلس على الطاولة ذاتها مع “رأس الإرهابيين” لعقد صفقة سياسية بغية ضمان استقباله السياسي.
ويؤكد معظم المحللين السياسيين الأتراك أن القلق الأكبر الذي يساور أردوغان هو احتمالية توجه حليفه القومي إلى المطالبة بإجراء انتخابات مبكرة في المستقبل القريب، تضع نقطة النهاية لحكمه الممتد لأكثر من عقدين، بعد أن أقدم على خطوة مماثلة في عام 2002 فتحت حينها الطريق له أيضًا ليصل إلى سدة الحكم، التكهن الذي سيشكل مفارقة كبيرة في حال تحققه. وغني عن البيان أنه إذا ما خسر حزب العدالة والتنمية حليفه الأساسي فإنه لن يتمكن من تنفيذ التعديلات الدستورية التي يريدها.
خلاصة القول: يبدو أن “القوة” التي يمثلها بهجلي في السياسة لن تسمح هذه المرة لأردوغان بعقد “صفقة سرية” خلف الأبواب المؤصدة مع عبد الله أوجلان تضمن له “الأصوات الكردية” وللآخر “الحرية”، وتوظيف “الإرهاب” في تمديد عمر نظامه، كما فعل ذلك خلال العقد الأخير، لذا تطالب بإجراء النسخة الجديدة من مفاوضات السلام الرامية إلى تسوية القضية الكردية تحت مظلة البرلمان وإطار القانون.