بقلم: ياوز أجار
على مر التاريخ، برزت استمالة القادة من خلال دغدغة مشاعرهم وإرضاء طموحاتهم كوسيلة فعّالة لتحقيق أهداف سياسية وإستراتيجية دون اللجوء إلى القوة العسكرية أو الموارد المالية.
حلم المملكة العربية الكبرى
فمثلا انطلق الشريف حسين في ثورته ضد الدولة العثمانية متسلحًا بحلم إقامة “المملكة العربية الكبرى”، الذي دعمته بريطانيا سياسيًا وعسكريًا. أثمرت هذه العلاقة عن تنصيب ابنه الأمير عبد الله ملكًا على الأردن، وتولّي ابنه الآخر الأمير فيصل حكم سوريا، ثم العراق لاحقًا.
لكن بمجرد تحقيق بريطانيا لمصالحها، بدأت الخلافات مع الشريف حسين تتصاعد، خاصة مع صعود ابن سعود كقوة إقليمية جديدة. ومع دعم بريطانيا لآل سعود، انهارت مملكة الحجاز الهاشمية التي أسسها الشريف حسين، واضطر الأخير إلى التنازل عن “طموحه الكبير” والاكتفاء بمملكة “الأردن الصغيرة”.
أردوغان والإطراءات الغربية
منذ عام 2007، انهالت الإشادات الغربية، خاصة من بريطانيا والولايات المتحدة، على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قدمته كقائد إقليمي قادر على إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهو ما غذّى طموحاته الكبيرة.
طموحات أردوغان التي بدأت ترجمتها إلى أرض الواقع بسفينة “مافي مرمرة”، لم تتحقق، بل أدت إلى هدر “التوافق الوطني” في الداخل و”النموذج التركي” في التعامل السلمي مع الدول المجاورة في الخارج، الذي بناه خلال العقد الأول من حكمه، والذي كان يقدم كنموذج يجب أن تقتدي به دول المنطقة.
تغيير النظام في سوريا وتصريحات ترامب
مع دفع الظروف الاقتصادية الداخلية والضغوط الإقليمية أردوغان إلى تطبيع العلاقات مع دول الجوار، شهدت سوريا تغييرًا مفاجئًا. وقد صرّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن القوة التي أطاحت بالنظام هي تركيا. وأثنى على أردوغان بكلمات تهدف إلى استمالة غروره: “تركيا ذكية جدًا. الرئيس أردوغان رجل ذكي وقوي للغاية. لقد بنى جيشًا قويًا جدًا. وسيكون مفتاح سوريا بيد تركيا!”
فورين بوليسي: لحظة الزعامة الإسلامية
من جانب آخر نشرت مجلة فورين بوليسي (Foreign Policy) الأمريكية مقالا بعنوان “أردوغان يحقق لحظة الزعامة الإسلامية بعد سقوط الأسد”، كتبه ستيفن أ. كوك، الزميل الأقدم في الدراسات المتعلقة بالشرق الأوسط وإفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية (CFR)، بالشراكة مع سنان سيدّي، الأستاذ المشارك في دراسات الأمن القومي بجامعة مشاة البحرية والزميل غير المقيم في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD).
أفاد المقال أن التغيير المفاجئ في القيادة السورية يمنح الرئيس التركي نفوذًا إقليميًا غير مسبوق، معيدًا للأذهان أن الموقف التركي تجاه سوريا شهد تحولات جذرية خلال العقد الماضي، حيث انتقل أردوغان من لعب دور الراعي والداعم لبشار الأسد إلى الوقوف في مقدمة الساعين للإطاحة به، ليجد اليوم نفسه، بعد سقوط النظام السوري، في موقع استثنائي يمكنه من رسم مستقبل سوريا وممارسة نفوذ إقليمي يحلم به.
وزعم المقال أن محاولات أردوغان المتكررة في إقناع إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالتدخل العسكري لإسقاط النظام السوري باءت بالفشل، مما دفعه إلى الاعتماد على “الجيش الوطني السوري” كأداة رئيسية لمواجهة القوات الكردية في شمال سوريا، مع تقديم دعم غير مباشر لجماعات إسلامية متشددة مثل “هيئة تحرير الشام”، التي برزت كقوة فعالة ضد نظام الأسد وحلفائه الروس وإيران.
من عملية محدودة إلى سقوط مفاجئ
وتابع المقال: “مع تعثر جهود التطبيع بين تركيا وسوريا، أعطى أردوغان الضوء الأخضر في نوفمبر الماضي لعملية عسكرية “محدودة” في حلب بمشاركة الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام، بهدف الضغط على دمشق لتقديم تنازلات في ملف إعادة اللاجئين. لكن ما بدأ كعملية تكتيكية تحول إلى “نجاح كارثي”، حيث أدى إلى انهيار نظام الأسد بالكامل”.
ثم علق المقال بالقول: “اليوم، يقف أردوغان على أعتاب مرحلة جديدة، حيث أصبح اللاعب الإقليمي الأكثر تأثيرًا في سوريا ما بعد الأسد. لكن رغم هذا الإنجاز، تلوح في الأفق تحديات كبيرة تهدد طموحاته الإقليمية”.
تحديات ما بعد الأسد
- الحلفاء المثيرون للجدل
المقال ذكر أن القوى السورية التي يدعمها أردوغان، وتحديدًا هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري، تُعد أبرز التحديات التي تواجه أردوغان. “فرغم جهود هيئة تحرير الشام الدعائية لتقديم صورة “معتدلة”، إلا أن ماضيها المرتبط بتنظيم القاعدة يظل يُشكل عبئًا عليها. فمن المعروف أن زعيمها أبو محمد الجولاني كان جزءًا من “جبهة النصرة” المرتبطة بالقاعدة، وأن انفصاله عنها جاء لأسباب تنظيمية وليست أيديولوجية. ورغم تعهد الجولاني بحماية الأقليات وطمأنة اللاجئين، يبقى سجل هيئة تحرير الشام في إدلب حافلًا بالممارسات القمعية”.
في حين قال المقال عن الجيش الوطني السوري بأن اسمه ارتبط بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، خاصة ضد الأكراد واليزيديين، مما يعقد صورة أردوغان كشريك موثوق لإعادة بناء سوريا مستقرة.
- التناقض الأيديولوجي
يحاول أردوغان تقديم تركيا كنموذج للدولة الديمقراطية ذات القيم الإسلامية، وهو الطرح الذي سيستخدمه لتبرير دوره القيادي في سوريا الجديدة. ومع ذلك، فإن هذا الادعاء يواجه تحديات كبيرة بالنظر إلى ممارسات حلفائه على الأرض، خاصة هيئة تحرير الشام. فالخطاب الذي يتبناه الجولاني اليوم بشأن بناء “سوريا شاملة” يعيد إلى الأذهان وعود أردوغان في بداية حكمه عندما زعم التخلي عن توجهاته الإسلامية لصالح قيم الديمقراطية والحوكمة الرشيدة. لكن بمرور الوقت، تراجعت تلك المبادئ، وتحولت تركيا إلى نموذج للسلطوية المتزايدة، بحسب مقال “فورين بوليسي”
سوريا الجديدة: بين الفرص والتحديات
قد يمثل سقوط نظام الأسد فرصة نادرة لتركيا لتأسيس نظام جديد يشمل جميع مكونات وأطياف سوريا، جنباً إلى جنب مع لاعبين إقليميين آخرين وباستخدام ديناميكيات المنطقة الذاتية. لكن قد تنجرّ تركيا والمنطقة، كما كان في العقد الثاني من حكمه، إلى مزيد من الفوضى، إذا وضع أردوغان طموحاته الشخصية فوق مصالح البلاد والمنطقة ولعب على قيادة العالم العربي والإسلامي مجددا.
وعلى عكس وسائل الإعلام الموالية لحكومته، يمكن القول إن أردوغان يدرك هذه الصورة المعقدة والمخاطر المحتملة في سوريا، بالنظر إلى موقفه الحذر نسبياً تجاه التطورات في سوريا. لكن الأيام المقبلة ستكشف لنا ما إذا كان أردوغان سيسير على طريق “التطبيع” مع دول المنطقة الذي بدأه في السنوات الأخيرة، أم سينجرف وراء أقوال المدح والثناء المفرطة التي تدغدغ غروره ويعود لأحلام “الخلافة” مرة أخرى.