كشفت تقارير إعلامية أمريكية عن مفاجأة مدوية مفادها أنّ رجل الأعمال التركي إيراني الأصل رضا زراب، الذي غير اسمه إلى آرون غولدسميث بعد محاكمة جرت في الولايات المتحدة، باع حقوق قصته الشخصية إلى شبكة Netflix العالمية، في خطوة ستجعل فضائح الرشوة والفساد التي طفت إلى السطح في تركيا عام 2013 تتصدّر الشاشات وتصبح مادة درامية على مستوى عالمي.
القصة تحمل في طياتها عناصر مثيرة: فساد مالي ضخم، وشبكات تهريب دولية، وخيانة سياسية، وعلاقات مشبوهة مع أنظمة إقليمية، وتحوّلات درامية من تاجر إلى شاهدٍ تحت حماية أميركية. كل ذلك يجعلها أقرب إلى رواية هوليوودية مكتملة الأركان.
أبعاد داخلية وخارجية
تاريخياً، تفجرت قضية زراب مع أحداث ديسمبر 2013 في تركيا، والتي وُصفت بأنها أكبر فضيحة فساد في تاريخ الجمهورية. آنذاك، وُجّهت اتهامات مباشرة لوزراء ورجال سلطة بارزين بتلقي رشى بملايين الدولارات مقابل تمرير معاملات مشبوهة مرتبطة بالالتفاف على العقوبات المفروضة على إيران. ورغم الأدلة الصوتية والمكتوبة، سارعت السلطة الحاكمة إلى وصفها بـ”محاولة انقلاب قضائي”، وأُغلقت الملفات وأُطيح بضباط الشرطة والمحققين.
زراب: من متهم إلى شاهد ملك
لاحقاً، وبعد توقيفه في الولايات المتحدة في 2016، تحوّل زراب إلى “العصفور المغرّد”، مقدّماً تفاصيل دقيقة أمام المحاكم الأميركية حول شبكات مالية وسياسية، بل وتم منحه هوية جديدة ضمن برنامج حماية الشهود باسم آرون غولدسميث. هذا التحوّل لم يمنعه من تحقيق مكاسب مالية إضافية، إذ تشير التقديرات إلى أنّ صفقة نتفليكس ستدرّ عليه ملايين الدولارات.
الأبعاد الدولية: من فضيحة مالية إلى قضية جيوسياسية
القضية لم تكن مجرد رشوة عابرة، بل ارتبطت مباشرة بالبرنامج النووي الإيراني. فقد سعت طهران، تحت وطأة العقوبات الأميركية والدولية، إلى التحايل على نظام العقوبات عبر شبكة مالية يديرها رضا زراب وشركاؤه الإقليميون. وكانت تركيا ممراً أساسياً لهذه العمليات التي تضمنت بيع النفط والغاز مقابل تحويلات نقدية سرية، في تجاوز صريح للقوانين الدولية.
إيران لم تتحرك منفردة، بل اعتمدت على دعم شخصيات نافذة داخل تركيا. فبينما كان يفترض أن تستفيد أنقرة من الاتفاقات الرسمية عبر تصدير منتجاتها مقابل النفط الإيراني، جرى العكس: تحولت الصفقات إلى نقد ورشاوى ذهبت إلى جيوب مسؤولين سياسيين ووزراء.
شراكة زراب – زنجاني
إلى جانب زراب، برز اسم بابك زنجاني، رجل الأعمال الإيراني الذي لعب دوراً موازياً في الداخل الإيراني. معاً، شكّلا شبكة مالية تعمل كذراع اقتصادية لإيران، وفي الوقت نفسه كجسر يربط بين السلطة السياسية التركية والإيرانية عبر بوابة المال والفساد.
الدور الأمريكي
الولايات المتحدة تابعت الملف بدقة لاعتباره انتهاكاً مباشراً لعقوباتها. وعندما ألقي القبض على زراب في نيويورك، تحوّل إلى شاهد رئيسي، مقدّماً معلومات حساسة عن حجم الأموال التي بلغت عشرات المليارات من الدولارات. بعض التقديرات أشارت إلى أن الرقم تجاوز بكثير ما ظهر للعلن.
واشنطن استثمرت هذه الشهادة ليس فقط لإدانة أفراد، بل لتثبيت نفوذها السياسي والاقتصادي، ووضعت الحكومة التركية في موقف حرج أمام المجتمع الدولي.
نظام أردوغان بين الإنكار والتبرير
في الداخل، حاولت حكومة أردوغان قلب الموازين عبر تصوير القضية على أنها “مؤامرة دولية”، ملوّحة بخطاب “الخطر الخارجي” لتعبئة القاعدة الشعبية. لكن على المستوى العالمي، كشفت المحاكم الأمريكية ما كان يُخفيه الإعلام المحلي: شبكة فساد عابرة للحدود، وتواطؤ رسمي تركي مع نظام يخضع لعقوبات دولية.
التداعيات السياسية في الداخل التركي بين الإنكار والتوظيف
القضية مثلت كابوساً سياسياً للحكومة التركية بقيادة أردوغان، إذ ارتبطت أسماء وزراء بارزين ورجال سلطة بفضائح رشاوى وحقائب أموال و”صناديق أحذية” مليئة بالدولارات. ورغم ذلك، سعى نظام أردوغان إلى تصوير الحدث كـ”محاولة انقلاب قضائي” أو “مؤامرة خارجية”، مكرّسة خطاباً شعبوياً يركّز على “استهداف الزعيم والدولة” من قبل قوى دولية.
هذا الخطاب سمح بتعبئة القاعدة الشعبية، لكنه فشل في محو الانطباع الدولي بأنّ تركيا أصبحت دولة غارقة في الفساد السياسي.
المعارضة: ضعف المواجهة
رغم جسامة الفضيحة، لم تُبد المعارضة التركية الحزم المطلوب. فبينما حاولت في البداية توظيف الأدلة داخل البرلمان، سرعان ما تراجعت تحت ضغط السلطة والظروف السياسية. وبقي العديد من القضاة والشرطة الذين كشفوا الفضيحة خلف القضبان أكثر من عقد، بينما كوفئ بعض المتورطين من وزراء ومسؤولين بيروقراطيين كبار بمناصب رسمية عليا.
هذا الموقف أثار انتقادات واسعة للمعارضة، التي بدت عاجزة عن تحويل الفضيحة إلى أداة ضغط حقيقية.
شبكة نتفليكس تدخل المشهد
تحويل القصة إلى عمل درامي عالمي عبر نتفليكس يفتح الباب أمام تداعيات جديدة:
على المستوى الدولي: سيكشف العالم تفاصيل موثّقة عن الفساد والرشى، ما سيؤدي إلى تشويه صورة أردوغان بشكل غير مسبوق، شبيهاً بما فعله فيلم Midnight Express في سبعينيات القرن الماضي.
على المستوى الداخلي: من المرجح أن تحاول الحكومة تقييد العرض أو مهاجمته باعتباره “مؤامرة من قوى خارجية”. غير أن التجربة تثبت أنّ هذه المحاولات قد تزيد من شهرة العمل وانتشاره.
أزمة أخلاقية عميقة
ما تكشفه القضية يتجاوز مجرد فساد مالي، إذ يعكس انهياراً في المعايير الأخلاقية والسياسية. فالسلطة لم تتردد في تحويل أجهزة الدولة إلى أدوات لحماية المتورطين، فيما حُوكم من كشف الفساد بتهم ملفقة. وهكذا تحوّلت تركيا، بنظر كثير من المراقبين، إلى نموذج “الدولة الحزبية” حيث القانون يخدم السلطة لا المجتمع.

