يقدم المسلسل القصير “المراهقة” (Adolescence) للمخرج البريطاني المبدع فيليب بارانتيني رؤية جريئة وصادمة لعالم المراهقين في العصر الرقمي.
يتكون المسلسل من أربع حلقات، ويبدأ بمداهمة الشرطة لمنزل عائلة ميلر في الصباح الباكر، حيث يتم اعتقال جيمي ميلر البالغ من العمر 13 عامًا بتهمة قتل زميل له في الفصل. هذه البداية الصادمة تغوص بالمشاهد مباشرة في قلب الأحداث، متجاوزة الأساليب السردية التقليدية.
دراما المراهقة بين الواقع والخيال
في ظل تصاعد الاهتمام بالقضايا الاجتماعية المرتبطة بالمراهقين وتأثير التكنولوجيا على تكوين هوياتهم، يبرز مسلسل “Adolescence” كعمل درامي يحمل أبعادًا نفسية واجتماعية عميقة. المسلسل، الذي أخرجه فيليب بارانتيني، لا يكتفي بسرد قصة طفل متهم بجريمة قتل، بل يُلقي الضوء على منظومة كاملة من العوامل التي تدفع الشباب نحو العزلة الفكرية والتطرف العنيف، خصوصًا من خلال ظاهرة “إنسل” (incel) المثيرة للجدل.
الدراما المرئية: تجربة سينمائية غير تقليدية
اعتمد بارانتيني في هذا العمل على تقنية الخطة المتواصلة (Plan Sequence) ، حيث يتم تصوير الحلقات الأربع عبر لقطة واحدة متصلة دون قطع، وهو أسلوب يعزز الشعور بالواقعية ويضع المشاهد في قلب الحدث دون فاصل زمني أو عاطفي. هذه التقنية، التي استخدمها سابقًا في فيلمه Boiling Point (2021) ، تزيد من توتر المشاهد وتجعله أكثر اندماجًا مع رحلة البطل المأساوية.
كيف يُولد التطرف من العزلة الرقمية؟
يركز المسلسل على شخصية جيمي ميلر، صبي في الثالثة عشرة من عمره، يجد نفسه في مواجهة اتهام خطير بالقتل. لكن القصة لا تتوقف عند الحادثة ذاتها، بل تغوص في العوامل النفسية والمجتمعية التي أوصلت جيمي إلى هذه النقطة.
إحدى القضايا المحورية التي يتناولها العمل هي مجتمعات “إنسل”، والتي تعكس شريحة من الشباب الذين يشعرون بالنبذ الاجتماعي، ويُرجعون فشلهم العاطفي إلى النساء والمجتمع عمومًا. هذه الفئة، التي نشأت داخل فضاءات الإنترنت المغلقة، تحولت إلى بيئة خصبة لتشكيل أفكار عدوانية ومتطرفة، حيث يتم تصوير النساء كسبب رئيسي لمعاناة هؤلاء الشباب، مما يؤدي في بعض الحالات إلى حوادث عنف مأساوية.
التكنولوجيا كسلاح ذو حدين: بين التواصل والانغلاق
يُبرز المسلسل الدور المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي في إعادة تشكيل وعي الشباب، حيث يمكن أن تصبح هذه المنصات إما مصدر دعم وتفاعل إيجابي، أو بيئة تحريضية تُشجع على الانعزال والتطرف. تتكرر هذه الأنماط في قضايا واقعية، مثل حادثة سميح تشليك في تركيا (2024) ، حين أقدم شاب متأثر بالأفكار المتطرفة على قتل فتاتين قبل أن يضع حدًا لحياته، وهو سيناريو مشابه لحالات أخرى شهدتها الولايات المتحدة وأوروبا بسبب تأثر الجناة بمحتوى إلكتروني يحرض على العنف.
الإخراج النفسي: كيف يتم توجيه المشاهد؟
نجح بارانتيني في نقل هذه القضايا إلى الشاشة من خلال أسلوب إخراجي يوحي بالواقعية المفرطة، حيث يضع المشاهد في موقع المتفرج غير القادر على التدخل، مما يعزز الشعور بالعجز الذي يعيشه الأفراد داخل المجتمعات الرقمية المغلقة. اللقطة الواحدة تخلق تجربة غير منقطعة، تجعل المشاهد يشعر وكأنه في قلب الأحداث، مما يزيد من حدة التوتر والإحساس بالضيق الذي يعيشه البطل في رحلته داخل النظام القضائي والمجتمعي.
دروس مستخلصة: ضرورة المواجهة المجتمعية
يطرح “Adolescence” تساؤلات مهمة حول مسؤولية المجتمع في احتواء المراهقين قبل وصولهم إلى مرحلة العنف. فالمسلسل لا يُدين جيمي فقط، بل يوجه الأنظار إلى النظام التعليمي، والأسر، والتأثير الإعلامي، ودور الإنترنت في تشكيل شخصيات الشباب. الرسالة الأهم هي أن التطرف ليس مجرد فعل فردي، بل هو نتاج منظومة كاملة من الإهمال والانعزال والتأثيرات السلبية الرقمية.
ما بعد الدراما – هل نحن أمام تحذير حقيقي؟
يبقى السؤال الأهم: هل يعكس “Adolescence” واقعًا متخيلاً أم أنه تحذير من مستقبل مجتمعي قاتم؟ مع تصاعد التأثير الرقمي في تشكيل السلوكيات الاجتماعية، يبدو أن المسلسل يقدم رؤية درامية لواقع يحتاج إلى معالجة جذرية، لا تقتصر فقط على المحتوى الترفيهي، بل تمتد إلى السياسات التربوية والاجتماعية التي تحمي الشباب من السقوط في دوامة العزلة والتطرف.
المخرج فيليب بارانتيني
بدأ بارانتيني حياته المهنية كممثل قبل أن ينتقل إلى الإخراج. اشتهر بفيلمه “نقطة الغليان” الذي صور أيضًا بتقنية اللقطة الواحدة أو الخطة المتواصلة. يتميز أسلوبه بالجرأة في تناول القضايا الاجتماعية المعقدة وبراعته في استخدام التقنيات السينمائية المبتكرة.

