أطلقت السلطات التركية حملة اعتقالات ومصادرات واسعة في الذكرى التاسعة لمحاولة الانقلاب المثيرة للجدل في 2016، استهدفت 371 شخصاً ومؤسسات تجارية كبرى، تحت تهم تتعلق بتقديم مساعدات إنسانية وتشغيل مفصولين تعسفياً بدعوى الارتباط بحركة الخدمة، ما يعكس استمرار استخدام “ملف الجماعة” لتصفية الخصوم ومصادرة رأس المال.
مقدمة: ذكرى الانقلاب تتحوّل إلى أداة لتصفية الداخل
في 15 تموز/يوليو 2025، أطلقت الحكومة التركية حملة أمنية واسعة في ذكرى المحاولة الانقلابية عام 2016. الحملة، التي وُصفت بأنها “تطهير ممنهج تحت ستار مكافحة الإرهاب“، استهدفت 371 شخصاً في عملية أمنية شملت60 ولاية تركية، وعلى رأسها إسطنبول وإزمير.
التهم الموجهة، وفقاً للمصادر الرسمية، تراوحت بين تقديم مساعدات مالية لأسر معتقلين ومفصولين، إلى تشغيل موظفين سابقين في الدولة تم فصلهم بمراسيم حالة الطوارئ غير الخاضعة للقوانين أو الرقابة البرلمانية.
تجريم العمل الخيري: المساعدات الإنسانية كأداة اتهام
تشير البيانات الأمنية إلى أن عدداً كبيراً من المعتقلين وُجهت إليهم تهم من قبيل تقديم دعم مالي أو اجتماعي لأسر مفصولين أو معتقلين، وتشغيل موظفين سابقين في الدولة ضمن مؤسسات خاصة، والانتماء أو التعاطف مع جماعة محظورة (حركة الخدمة)، رغم غياب أدلة فعلية.
وقد أثارت هذه التهم موجة انتقادات في الأوساط الحقوقية، كونها تجرّم ممارسات إنسانية أساسية مثل التبرع أو تشغيل أفراد في حاجة إلى عمل، وتفتح الباب على مصراعيه لاستخدام القانون بشكل انتقائي.
استهداف رأس المال: مصادرة شركات تجارية كبرى
في تطور لافت، شملت الحملة شركتين تجاريتين معروفتين على المستوى الوطني وهما حقمار HAKMAR سلسلة متاجر غذائية تضم نحو 800 فرع في عموم تركيا، وتاتباك Tatbak وهي مؤسسة متخصصة في الصناعات الغذائية والحلويات التقليدية بإسطنبول.
صاحب الشركتين، ويُدعى Z.D.، اعتُقل بتهمة تحويل أموال عبر شركته لأسر “مرتبطة بحركة الخدمة”، كما اعتُقل الشرطي السابق C.G.، بتهمة توزيع تلك الأموال.
وبحسب السلطات، استخدم Z.D. شركتيه كقنوات لتحويل ما وصف بـ”الأموال التنظيمية”، رغم أن المتلقين هم في الغالب أسر معتقلين أو أطفال ونساء في أوضاع إنسانية صعبة.
مواد مُصادرة غامضة… هل هي كتب دينية؟
أعلنت الجهات الأمنية أنها عثرت على “مواد مرتبطة بالتنظيم” في منزل Z.D.، لكنها امتنعت عن الكشف عن طبيعة هذه المواد. وتشير مصادر حقوقية إلى أن المواد قد تكون كتباً دينية مثل القرآن الكريم أو كتب حديث وتفسير، كما حدث في حالات سابقة، مما يعزز فرضية تجريم التدين بذريعة الأمن.
اتهامات قديمة: التبرع للحج والاشتراك بصحيفة “زمان“
ومن بين الاتهامات الموجهة لمالك HAKMAR وTatbak تبرعات مالية للمحتاجينوالراغبين في أداء الحج والاشتراك في صحيفة “زمان” قبل مصادرتها قبيل الانقلاب المثير للجدل.
وتجدر الإشارة إلى أن “زمان” كانت صحيفة رسمية وقانونية حتى تمت مصادرتها في عام 2016، ما يعني أن الاتهامات الموجهة الآن تعود إلى وقائع يزيد عمرها عن 11 عاماً، ما يثير تساؤلات قانونية جدية حول تقادم الأفعال وشرعية الملاحقات القضائية.
تشغيل المفصولين من الدولة: مخالفة دستورية أم ملاحقة تعسفية؟
اتهمت النيابة العامة Z.D. بتشغيل موظفين مفصولين بمراسيم الطوارئ، وزعمت أنهم متعاطفون مع ما وصفته بالتنظيم، في إشارة إلى حركة الخدمة.
يُشار إلى أن تشغيل المفصولين لا يُعد جريمة في القانون التركي ولا في الدستور الذي يكفل “الحق في العمل“. ومع ذلك، تتحرك النيابة والأجهزة الأمنية بموجب معايير أمنية ضبابية غير منصوص عليها في القانون، وهو ما يشكّل، وفقاً لخبراء، انتهاكاً صارخاً لسيادة القانون ومبادئ العدالة.
عمليات أمنية متزامنة في تسع ولايات
أُجريت المداهمات الأمنية بتنسيق بين جهاز الاستخبارات الوطني، ونيابة إسطنبول، وشعبة مكافحة الجرائم المالية، وشملت ولايات أنقرة، وسكاريا، وعثمانية، وبايبورت، وغيرسون، وملاطية، ويالوفا، وبولو.
وقد اعتُقل إلى جانب Z.D. وC.G.، 24شخصاً آخرين من الذين تلقوا المساعدات المالية، ما يضعهم في خانة “التنظيم” من وجهة نظر الدولة، على الرغم من وضعهم الإنساني الواضح كمحتاجين أو متضررين من الملاحقات السابقة.
مناسبات جماعية… ضمن لائحة التهم؟
وفي زاوية أخرى من التحقيقات، تم توقيف51 موظفاً في وزارة التربية والتعليم، بتهم تتعلق بـ”مواصلة العمل التنظيمي عبر الاجتماعات الدينية وتنظيم مناسبات جماعية مثل ذبخ وتوذيع الأضاحي وحتى تنظيم حفلات الزواج“.
وبحسب النيابة، فإن هؤلاء “قاموا بتزويج أفراد الجماعة ببعضهم البعض بهدف الحفاظ على تماسكها الداخلي”، وهو ما تم تفسيره كسلوك تنظيمي إرهابي!، مما يسلّط الضوء على التسييس المفرط لحياة الأفراد الخاصة.
فرض الحراسة القضائية: وسيلة شرعنة لمصادرة المال الخاص؟
بناءً على طلب النيابة العامة، تم تعيين وصي قضائي على الشركتي المذكورتين، مما يعني عملياً مصادرة المؤسستين لصالح الدولة، مع احتمال نقل إدارتهما إلى شخصيات مقربة من السلطة.
يعتبر هذا الإجراء حلقة جديدة من سلسلة طويلة من مصادرة الممتلكات والشركات منذ 2016، والتي استهدفت آلاف الكيانات الاقتصادية بذريعة الانتماء لجماعات محظورة.
خلفية سياسية: تصدير الأزمة الداخلية إلى العدو الداخلي
يأتي هذا التصعيد في سياق سياسي داخلي مضطرب، مع تصاعد الدعوات للعودة إلى النظام البرلماني وتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية. ويرى مراقبون أن تفعيل ورقة “الخطر الداخلي“ عبر “ذكرى الانقلاب” بات بمثابة أداة سياسية لإعادة تعبئة الشارع والتغطية على الأزمات الاقتصادية والسياسية المتفاقمة.

