تقرير: ياوز أجار
ادعى دوغو برينجك، زعيم حزب الوطن ذي التوجه القومي العلماني، أمس، أن المخابرات التركية من أسست حزب العمال الكردستاني، رغم أن تركيا وحلفائها الغربيين تصنفه رسميا منظمة إرهابية.
في الوقت الذي تتحدث فيه حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان عن بدء عملية سلام جديدة من أجل تسوية القضية الكردية، أدلى برينجك بتصريحات مفاجئة حول تأسيس حزب العمال الكردستاني (PKK) ودور الاستخبارات التركية (MİT) في ذلك.
برينجك الذي يعتبر من أبرز قيادات ما يسمي في تركيا “الدولة العميقة” أو تنظيم “أرجنكون”، ويعد حليف أردوغان من خارج الحكومة، قال في الحلقة الأخيرة من برنامج “الطاولة الحمراء” الذي يقدمه الإعلامي محمد جوشكون على قناة “عقد تي في” ذات التوجه الإسلامي: “أقول بكل صراحة: إن المخابرات التركية من أسست حزب العمال الكردستاني، وعينت عبد الله أوجلان لقيادته، في إطار نظرية الحشرات التي تأكل الحشرات، للقضاء على المنظمات الثورية في جنوب شرق تركيا، باستخدام السلاح والعنف”، على حد تعبيره.
تأتي تصريحات بيرينجيك لتثير نقاشًا واسعًا حول دور “الدولة العميقة” في تركيا، والعلاقة الملتبسة بين أجهزة الأمن والتنظيمات المسلحة، ويشير المراقبون إلى ضرورة تحليل هذه التصريحات في سياق أوسع لفهم دور الأجهزة الأمنية في تشكيل المشهد السياسي في تركيا على مدى عقود.
من هو دوغو برينجك؟
لقد خطف برينجك الأضواء على نفسه عبر مواقفه الحساسة في اللحظات الحرجة طيلة تاريخ السياسة التركية. فمع أن نسبة الدعم التي يحصل عليها في الانتخابات ضئيلة جدًا لا تتجاوز 1%، إلا أنه تمتع حتى اليوم بنفوذ قوي في أجهزة الدولة، خاصة في أجهزة الأمن والقضاء والجيش، ولعب أدوارًا حاسمة في تلميع أو تشويه حركات ومجموعات سياسية أو مدنية، بفضل علاقاته “الغامضة” و”المثيرة” مع بؤر القوى الداخلية والخارجية.
وأسّس برينجك أربعة أحزاب وترأسها، وهي حزب العمال والفلاحين (1978-1980)، والحزب الاشتراكي (1991-1992)، وحزب العمال (1992–2015)، وحزب الوطن الحالي (15 شباط 2015 – ؟). لم يتبنَّ فكرًا معينًا ثابتًا، وإنما روّج لأي فكر مهما كان، بحسب الظروف واتجاه الرياح؛ فهو كان ماركسيًّا لينينيًّا ماوِيًّا في سبعينات القرن الماضي؛ وداعمًا لليسارية الكردية في الثمانينيات؛ وقوميًّا علمانيًّا متطرفًا بعد التسعينيات!
ويصدر برينجك صحيفة يسارية علمانية باسم “آيدينليك” (Aydınlık)، ويقود المجموعة التي تكوّنت حول هذه الصحيفة. واللافت للانتباه أنه دعم في تسعينات القرن الماضي حزب العمال الكردستاني “الإرهابي”، وعمل على تشتيت اليسارية التركية من خلال توظيف اليسارية الكردية. حتى إنه كان يشرف على مجلة (نحو 2000) التي تحولت إلى اللسان المتحدث باسم العمال الكردستاني في ذلك الوقت.
وأجرى برينجك، الذي كان يمثل اليسارية التركية حينها، لقائين مختلفين مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، الذي كان يمثل اليسارية الكردية، أحدهما في عام 1989، والآخر في عام 1991، والتقطتهما عدسات آلة التصوير وهما يتبادلان الزهور فيما بينهما، في أحد المعسكرات التابعة للعمال الكردستاني، على الرغم من أنهما يظهران اليوم العداء لبعضهما البعض، بل يعتبر أحدهما الآخر نقيضه، حيث يقدم برينجك نفسه في الوقت الراهن “قوميًّا وطنيًّا علمانيًّا” يجاهد ضد أوجلان الذي يحاول تقسيم تركيا!
وعُرف برينجك بمواقفه المصلحية المتقلبة، ولا يخفي أنه لا يتبني أي دين أو فكر أو توجه إيدولوجي معين؛ إذ يقف اليوم إلى جانب “المعسكر الأوراسي” بقيادة روسيا والصين، لكنه كان يدافع قبل ذلك عن “المعسكر الغربي” بقيادة أمريكا وبريطانيا أو حلف شمال الأطلسي الناتو ويصف الاتحاد السوفيتي بـ”الأمبريالي”؛ ويعلي اليوم من شأن “القومية التركية الطورانية”، غير أنه كان يصف تركيا من قبلُ بـ”الدولة المحتلة” لجزيرة قبرص، ويعترف بمزاعم الإبادة الأرمنية على يد الدولة العثمانية.
ومن المثير للانتباه أن محمد أيمور؛ رئيس شعبة مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات التركي سابقاً يصف برينجك بـ(fabricator)، أي المحترف في اختلاق أحداثٍ من أجل إثارة البلبلة والفوضى في البلاد؛ في حين أن هرم عباس، نائب رئيس المخابرات الأسبق، الذي توفي عقب عملية اغتيال صاخبة في 1990، يتهمه بـ”العمالة لدولة أجنبية”، ويشرح مهمته في كتابه بعنوان “التحليل” بقوله: “تنفيذ عمليات التصفية باستخدام طرقٍ وأساليبَ شتى ضد العناصر المستهدَفة التي تشكّل عائقاً أمام تحقُّق مصالح الدولة الأجنبية التي تعمل لصالحها، والسعي للحيلولة دون تطورِ وتقدُّم تركيا، ومنعها من اتباع سياسة وطنية مستقلة بعيداً عن مصالح تلك الدولة الأجنبية، وذلك من خلال تنظيم أنشطةٍ وفعاليات تقود البلاد إلى حالة عدم الاستقرار المتواصلة”.
الخلفية التاريخية
الصراع بين اليمين واليسار
يذكر أن التحقيقات الأمنية والمحاكمات القضائية التي بدأت في عام 2007 واستمرت حتى 2014 كشفت عن الجرائم التي ارتكبها قيادات وعناصر تنظيم “أرجنكون” الإرهابي المسلح الذي يعتبر نفسه الدولة العميقة في تركيا، من قَبيل تأسيس حركاتٍ ومنظماتٍ مزيفة وهمية في مواجهة الحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني غير المرغوب فيها.
وأظهرت وثائق التنظيم والمعلومات التي حصل عليها رجال الأمن والقضاء خلال تلك التحقيقات والمحاكمات أن تنظيم أرجنكون قد أسس حركات ومنظمات تحمل أسماء مختلفة وترفع رايات متناقضة، وكلفها بإشعال صراعات واشتباكات مسلحة تسمح له بتجريم وأرهبة الحركات والمنظمات السلمية “المستهدفة”، تمهيدًا لتشويه صورتها أمام الرأي العام والقضاء عليها في نهاية المطاف.
أفضل مثال على ذلك أحداث الشغب والفوضى وعمليات القتل والاغتيال التي جرت بين اليساريين واليمينيين، بدءًا من نهايات سبعينات القرن المنصرم حتى منتصف التسعينات، وتذرّع بها جنرالات تنظيم أرجنكون لتنفيذ انقلاب في 12 مارس 1971 وآخر في 12 سبتمبر 1980. فقد شهدت سبعينات القرن الماضي تقسيم المجتمع إلى أقطاب مضادة من خلال اغتيال شخصيات مثقفة بارزة من اليمينيين واليساريين بالبندقية عينها، وإثارة بلبلة وفوضى في كل مكان، بما فيه الجامعات، بتعليمات من الجهة نفسها. حيث ثبت، وفقًا لتقارير رسمية، أن أجهزة الشرطة عثرت على أسلحة بيد اليمينيين وأسلحة أخرى بحوزة اليساريين، لكن أرقامها التسلسلية كانت تشير إلى خروجها من يدٍ واحدة. وتكشف المعطيات أن عدد ضحايا الصراع اليساري – اليميني في تركيا بين 1974-1980 فقط بلغ 5.388 شخصًا.
النائب البرلماني السابق من حزب العدالة والتنمية شامل طيار، الذي ألف كتابا باسم “عملية أرجنكون”، وكتابًا آخر باسم “أرجنكون الكردي”، في إشارة منه إلى حزب العمال الكردستاني، أدلى بتصريحات مثيرة في 2011 على قناة تي في 8: “لقد تم احتجاز عبد الله أوجلان (زعيم حزب العمال الكردستاني) عقب التحذير العسكري في 1971 بدعوى مشاركته في أحداث شغب وفوضى سميت وقتها بـ”احتجاجات الطلبة”. وفي 8 أبريل 1972 أودع السجن وظل فيه 6 أشهر، وكان المدعي العام باقي طوغ وجه لأوجلان اتهامات خطيرة لو تم اعتماد مذكرة الاتهام الأولى التي أعدها بحقه لمكث في السجن سنوات طويلة. غير أن نائب رئيس الأركان العامة حينها طورغوت سونالب اتصل بالمدعي العام وقال له: عبد الله أوجلان من رجالنا، أطلقوا سراحه. وبعدها غير المدعي العام مذكرته ليتمّ الإفراج عنه في نهاية المطاف”.
كما أن عبد الرحمن ديليباك، الكاتب الإسلامي، الذي سبق أن عمل كمنظِّر لأفكار أردوغان حتى وقت قريب، والمعروف بعلاقاته المثيرة مع رجال الدولة العميقة، أعلن أكثر من مرة أن عبد الله أوجلان من رجال المخابرات.
وكان أوجلان قد أسس في 1974 حزب العمال الكردستاني “اليساري” المصنف حاليًّا ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية لتركيا ومعظم دول العالم، وذلك احتجاجًا على موقف “اليسارية التركية” من حقوق الأكراد في تركيا، وقاد حركة كردية عنصرية يسارية في شرق وجنوب شرق البلاد، داعيًا إلى تأسيس “دولة كردستان المتحدة” على المناطق الكردية في كل من تركيا وسوريا وإيران والعراق. ومع أن هذه كانت الأهداف المعلنة لأوجلان، لكن مهمته الأساسية المسندة إليه كانت تشتيت اليسارية التركية بعدما “تجاوزت الحدود المسموح لها”، والإيقاع بين الأتراك والأكراد حفاظًا على “الوضع الراهن” الذي أسسته الدولة العميقة في البلاد. إذ وجهت الدولة العميقة في سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت اليسارية سلعة رائجة، أذرعها في مؤسسات الدولة لتضيِّقَ الخناق على المحتجين السلميين من اليساريين باستخدام قوة الدولة، وتمارسَ عليهم الضغوط حتى يضطروا هم أيضًا إلى استخدام العنف من جهة؛ ومن جهة أخرى شكَّلت منظماتٍ وهمية، تمهيداً لإخراجهم عن الإطار القانوني والمعارضة السلمية والدفع بهم إلى عالم الجرائم وإجبارهم على استخدام الإرهاب، وذلك حتى تتمكّن من تنفيذ عمليات ضد المنظمات اليسارية السلمية وإعادة تصميمها في إطار أهدافها.
وأفضل مثال على ذلك هو مجموعة “أيدينليك” السيارية بقيادة برينجك، إذ دعمت هذه المجموعة حزب العمال الكردستاني فترة معينة، وشتّتت اليسارية التركية من خلال اليسارية الكردية، وحاولت القضاء على اليسارية تماماً بعدما شكّلت معارضة تهدد مصالح أصحاب “الوضع الراهن” في تركيا، ولو على حساب تحويل البلاد إلى بحيرة دماء بسبب مئات القتلى بين الشباب اليساريين واليمينيين.
تلك الأحزاب والمنظمات العدوّة في العلن، والحليفة في الخفاء، الموجهة من قبل تنظيم أرجنكون أثارت صراعًا مسلحًا بين اليمينيين واليساريين في سبعينات القرن الماضي، بل بين اليساريين أنفسهم، لخلق الذريعة المطلوبة للجيش، حيث وجه للحكومة مذكرة عسكرية في 12 مارس 1971، وهي تعتبر ثاني انقلاب شهدتها تركيا بعد 11 عامًا من سابقه الذي حدث في 1960.
الصراع بين حزب الله والكردستاني
وكذلك الحال بالنسبة للصراع الدائر بين تنظيمي حزب الله “الإسلامي” الكردي وحزب العمال الكردستاني الاشتراكي اللينيني الماوي في تسعينات القرن الماضي حتى بداية الألفية الثالثة. وهناك أحداث واقعية وتقارير رسمية تكشف الأخذ والعطاء بين هذين التنظيمين. ويرى بعض المحللين أن الدولة العميقة (أرجنكون) أسست حزب الله لموازنة حزب العمال الكردستاني حتى لا يخرجا عن حدود سيطرتها.
وهناك كثير من الأحداث التي تدل على صحة ذلك، منها أن الشرطة داهمت في 15 نوفمبر عام 2000 منزلاً مؤلفًا من طابقين في بلدة “جزرة” التابعة لمدينة شرناق، والتي ينتشر فيها حزب الله بكثرة. أسفرت عملية التفتيش عن العثور على 99 بندقية طويلة المدى، وكانت مُخزَّنة ومصفّفة على طريقة “لائحة التعبئة التكتيكية/القوات الخاصة” في الجيش. ثم أرسلت شرطة شرناق تلك البندقيات إلى المعامل، لتتبين أن الأسلحة المصادَرة تابعة لحزب الله “الإسلامي”، واستخدمت في العمليات الإرهابية أو جنايات مجهولة الفاعل التي ارتكبها حزب العمال الكردستاني “الماركسي الاشتراكي”! فضلاً عن ذلك، فإن سجل الجرد لبعض هذه الأسلحة كان يعود لقوات درك مدينة شرناق، مما اعتبره كثير ممن كتبوا في هذا المجال دليلاً على أن التنظيمين من صنع الدولة العميقة أو يقعان تحت سيطرتها على أقل تقدير.
وقد وظّفت الدولة العميقة حزب الله في موازنة حزب العمال الكردستاني من جهة، وتشويه سمعة تيار “الإسلام السياسي” الصاعد في تسعينات القرن المنصرم بفعل الثورة الإيرانية “الإسلامية” من جهة أخرى، بعدما وظفت العمال الكردستاني في عرقلة تصاعد اليسارية التركية إلى مستوى تخرج عن الحدود المسموح لها.
وفي 12 سبتمبر 1980 انقلب الجيش مرة أخرى بركوب موجة الصراع الخطابي والمسلح التي أثارتها أجنحة الدولة العميقة المختلفة بين الأكراد اليساريين بقيادة أوجلان، والأتراك اليساريين بقيادة برينجك، وبين القوميين “المحافظين” من الأتراك والأكراد بقيادة ألب أرسلان تركيش الذي سبق أن عمل ضمن وحدة القوات الخاصة قبل تأسيس حزب الحركة القومية، و”الإسلاميين” بقيادة أربكان. إذ أقبل الجنرال “كنعان أفرين” على ثالث انقلاب عسكري في تاريخ تركيا الحديث على حكومة “سليمان دميرل”، زعيم حزب العدالة آنذاك، متذرّعًا بشيوع الاغتيالات السياسية بين اليمينيين واليساريين والقوميين المحافظين، وبـ”تظاهرة القدس” التي نظمها الزعيم الإسلامي أربكان في مدينة قونيا قبل 6 أيام من الانقلاب، حيث اعتبرها عودة “الرجعية الدينية” لإزالة الدولة التركية العلمانية وإقامة دولة الشريعة الإسلامية! لقد شارك في التظاهرة حوالي 100 ألف مواطن، ارتدى البعض عباءة إسلامية، ووضع آخرون على رؤوسهم عمائم، ومن ثم رفعوا هتافات من قبيل: “سنؤسس دولة الشريعة لتنتهي الوحشية”، و”ستتهدم الدولة اللادينية”، وما إلى ذلك من العبارات الاستفزازية التي استغلها الإعلام الموالي للدولة العميقة من أجل تحريض الجيش على الانقلاب.
يؤكد الكاتب والمحلل السياسي أمر الله أوسلو أن هدف انقلاب 1980 كان تطهير الدولة من الكوادر غير المرغوبة فيها من العلويين والسنيّين معًا تحت مسمّى وشعارِ مقاومة “الشيوعية” من جانب، و”الرجعية الدينية” من جانب آخر؛ واعتبر ذلك امتدادًا وانعكاسًا للصراع القائم بين الأقلية والأغلبية منذ عهد الدولة العثمانية.
التحالف السري في عهد أردوغان
أدلت ناجيهان آلتشي، الصحفية المقربة من أردوغان، بتعليق مثير للجدل عام 2022 فيما يخص نظام الحكومة الرئاسي، حيث قالت خلال مشاركتها في برنامج على قناة “خبرترك تي في”: “إن تحالفًا سريًّا يضم الزعيم اليساري دوغو برينجك يتولى اليوم حكم تركيا”. وزعمت “أن النظام الذي يترأسه أردوغان يُدار عبر تحالف يتكون من زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي من جهة، وزعيم حزب الوطن اليساري دوغو برينجك من جهة أخرى”.
هذه التصريحات جددت الجدل الدائر حول الانتقال للنظام الرئاسي عقب خسارة حزب العدالة والتنمية الحاكم رئاسة بلدية إسطنبول خلال انتخابات 2019 حيث بعث زعيم العمال الكردستاني عبد الله أوجلان رسالة داعمة لأردوغان قبيل هذه الانتخابات، مما دفع بعض المحللين إلى اعتبار أوجلان “الشريك الرابع” في هذا التحالف السري.
وكان برينجك من الذين اعتقلوا في إطار تحقيقات تنظيم “أرجنكون”، ثم خرج من السجن في 2014 مع زملائه الآخرين بعد قضاء نحو أربع سنوات بموجب تحالف عقده مع الرئيس أردوغان بعد ظهور ملفات فساد حكومته في عام 2013.
ويرى مراقبون أن أردوغان عقد تحالفًا مع برينجك قبل عام 2013 للخروج من أزمة فضائح الفساد والرشوة، وفي عام 2015 وسّع نطاق التحالف بضمّ زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي، ليتمكن من إعادة الحكومة المنفردة بعد أن فقدها بدخول الأكراد إلى البرلمان بـ80 برلمانيًّا في انتخابات 7 حزيران 2015، مؤكدين أن تركيا يديرها منذ لذلك الحين هذا التحالف الرباعي بين أردوغان وبهجلي وبرينجك وأوجلان.
واللافت أن برينجك أكد في تصريحات مختلفة يدلي بها منذ خروجه من السجن في عام 2014 أن أردوغان اضطر إلى “الخضوع لإرادتهم”، وأنهم باعتبارهم تنظيم أرجنكون من وضعوا “خطة القضاء على حركة الخدمة” التي تستوحي فكر فتح الله كولن الراحل، وأن أردوغان هو الذي يطبّق وينفّذ هذه الخطة، على حد تعبيره. في حين قال الكاتب الإسلامي عبد الرحمن ديليباك المذكور: “لقد اعتمدنا على منظمة فتح الله كولن في تصفية منظمة مجموعة العمل الغربية (تنظيم أرجنكون) التي أحدثت انقلاب 28 شباط 1997.. وفي هذه الأيام اعتمدنا على هذه المجموعة (أرجنكون) في تصفية حركة الخدمة”، على حد تعبيره.
وكان الكاتب ذاته (ديليباك) قال في مقال بعنوان “من بنسلفانيا إلى إمرالي” بصحيفة “عقد” (16 شباط 2014)، عقب الحملات الأمنية التي بدأ أردوغان ينفذها ضد رجال الأمن والقضاء المشرفين على تحقيقات الفساد والرشوة في 2013 بتهمة انتمائهم إلى ما سماه “الكيان الموازي”، إن هذه العملية من المخطط لها أن تنتهي بإرسال فتح الله كولن إلى سجن جزيرة “إمرالي” حيث يقبع فيه حاليا عبد الله أوجلان، وإرسال أعوان وأتباع كولن إلى سجن سيليفري، مما يدل على خطة طويلة الأمد تحقق القسم الأعظم منها بالفعل.
يحاول أردوغان اليوم إضفاء “الشرعية العلنية” على شريكه الرابع أوجلان في نظر الرأي العام رغم مسؤوليته في مقتل عشرات الآلاف من المواطنين، بعدما دعاه شريكه الآخر بهجلي إلى البرلمان ليعلن من خلاله عن حل حزب العمال الكردستاني، في صفقة متبادلة يخرج بموجبها أوجلان عن السجن، ويحصل أردوغان على تأييد الأكراد لسنّ قانون يسمح له بالترشح لمنصب الرئاسة مجددا.
سلام أم استغلال جديد؟
مع أن كلا من أردوغان والرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب زعيم سياسي لا يمكن التوقع والتنبؤ بتحركاته بسهولة، إلا أن العلاقات الدبلوماسية تديرها الأجهزة البيروقراطية ذات الطابع الاستمراري، وتقوم على المصالح المتبادلة، لذا لا أتوقع تغييرا جذريا في العلاقات الثنائية بين أنقرة وواشنطن في عهد ترامب الثاني.
لكن هناك عدة قضايا يمكن للطرفين أن يمارسا ضغوطا على بعضهما البعض من خلالها لخلق نفوذ سياسي وتمرير مشاريعهما، أبرزها قضية الكيان الكردي الجديد في شمال سوريا. فالرئيس أردوغان يرى وحدات حماية الشعب الكردية، وهي جزء رئيسي من قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمنظمة إرهابية. في حين يراها ترامب أهم حليف لواشنطن في مكافحة تنظيم داعش. فقد يتجه أردوغان إلى تعزيز الوجود العسكري التركي في شمال سوريا أكثر مما فعل في أكتوبر 2019، وذلك في مسعى لمنع توسع الكيان الكردي الذي يسعى إلى الحصول على دعم دولي للحكم الذاتي الذي أسسه الأكراد في شمال سوريا. أما ترامب فقد يضيق الخناق على أردوغان من خلال التهديد بالاعتراف الرسمي بالحكم الذاتي الكردي السوري على غرار ما حدث في كردستان العراق.
وقد كشف روبرت إف. كينيدي الابن خلال بث مباشر مع المعلق تاكر كارلسون، أن ترامب يعتزم سحب القوات الأمريكية من شمال سوريا لتجنب التورط في صراعات بين القوات التركية والمقاتلين الأكراد. وذكر محادثة مع ترامب حول سلامة نحو 500 جندي أمريكي متمركزين بالقرب من الحدود السورية التركية، مشيرًا إلى أن ترامب أعرب عن قلقه من أن هذه القوات قد تصبح “وقودًا للمدافع” وسط تصاعد التوترات بين تركيا والجماعات الكردية في المنطقة، مما يدل على أن الكيان الكردي السوري من أهم الأوراق التي يحوزها ترامب ويمكن أن يستغلها في حال تناقض المصالح بين الطرفين.
لكن هناك احتمال ثالث وهو في نظري أقوى من الاحتمالين الأولين، وهو توافق الطرفين فيما يخص الكيان الكردي السوري. فحكومة ترامب قد تقترح على أردوغان أن يعترف رسميا بالكيان الكردي في سوريا، في مقابل ضغوط واشنطن على حزب العمال الكردستاني للتخلي عن السلاح بعدما ألقت القبض على زعيمه عبد الله أوجلان وسلمه إلى تركيا في بدايات الألفية الثالثة.
هذا الاقتراح يتوافق مع عملية الانفتاح الجديدة التي أطلقها أردوغان للتفاوض مع عبد الله أوجلان من أجل تسوية القضية الكردية. أردوغان يسعى إلى الاتفاق مع أوجلان في مقابل دعم الأكراد رغبته في الفوز بولاية رئاسية أخرى. وإذا ما تمكن من تسوية الإرهاب بشكل أو بآخر فإنه سوف يقدم نفسه كزعيم سياسي وضع نقطة النهاية للإرهاب الممتد لنحو نصف قرن، مما سيزيد شعبيته بين الأتراك والأكراد على حد سواء.
هذا الاحتمال يبدو لصالح كل من ترامب وأردوغان، لكن هذا قد يؤدي إلى نزاع بين القوى المحلية في تركيا. حيث إن هناك جهات سياسية وازنة لا تثق في كل من نوايا ترامب وحزب العمال الكردستاني، وتتهم أردوغان بالسعي إلى تحقيق مكاسب سياسية عابرة، مدعية أن العمال الكردستاني وإن تخلى عن الكفاح المسلح ضد تركيا لفترة معينة إلا أنه سيعود إلى سابق عهده من الكفاح المسلح بعد تحقيق حلمه على الأراضي السورية، وأن واشنطن سوف تتجه بعد فترة أيضًا إلى دعم الأكراد ليؤسسوا حكمًا ذاتيا في كل من إيران وتركيا، لتؤسس في نهاية المطاف “كردستان الكبرى” التي ستكون عاملا مهما في تأمين إسرائيل، بحسب رأيهم. وهذا رأي معظم القوميين من السياسيين والكتاب. فضلا عن أن قيادات كردية وازنة، مثل صلاح الدين دميرتاش المعتقل أيضًا، يعبر عن مخاوفه من هذه الصفقة السرية بين أردوغان وأوجلان، ومن تعقد الأزمة الكردية أكثر مما كان أثناء عملية السلام السابقة التي أطلقها أردوغان في 2011 وتخلى عنها في 2016 بعدما خسر أصوات الأكراد، مما أدى إلى تصعيد جديد للصراع بين التنظيم والقوات الأمنية. لذا يطالب دميرتاش بإجراء عملية السلام الجديدة مع الحزب الكردي الشرعي تحت سقف البرلمان بصورة شفافة تحقق سلاما حقيقيا بين الأكراد والأتراك. وهو الأمر الذي يعني أن نجاح أردوغان في التوافق مع ترامب لن يقدم له “الولاية الرئاسية الإضافية” في طبق من ذهب، وإنما يتوجب عليه إيجاد طريق وسط مع القوى السياسية المحلية أيضًا.