منذ ما يقارب القرنين، ما زالت العبارات البيضاء التي تشقّ مياه البوسفور تمثّل رمزًا حيًا لإسطنبول، وجسرًا إنسانيًا يعبر بين ضفتيها الأوروبية والآسيوية.
وعلى الرغم من التطور الكبير في البنية التحتية ـ من جسور وأنفاق وخطوط مترو تحت البحر ـ فإن الرحلات البحرية لم تفقد مكانتها، بل بقيت جزءًا من هوية المدينة. وتشير بيانات شركة Şehir Hatları، (الخطوط المدنية) المشغل الرئيسي للعبّارات، إلى أن أكثر من أربعين مليون مسافر يستخدمون هذه الخدمة سنويًا.
ذاكرة تاريخية وهوية حضرية
يرى المؤرخ المتخصص بتاريخ العبارات، عديل بالي، أن أي مشهد لإسطنبول لا يكتمل دون برج الفتاة وعبّارة ونورس يحلّق فوق المياه. فوجود وسيلة نقل بحرية تربط بين قارتين يجعل من إسطنبول حالة استثنائية عالميًا.
بدأت أولى الرحلات البحرية عام 1843، ما ساهم في تحويل القرى الساحلية الصغيرة على ضفاف البوسفور إلى وجهات اصطياف يقصدها علية القوم العثمانيون، الذين شيّدوا قصورًا خشبية مطلّة على البحر. وحتى افتتاح جسر البوسفور الأول عام 1973، لم يكن هناك بديل عن العبارات للتنقل بين آسيا وأوروبا. واليوم، ما زال كثير من سكان المدينة يعتبرون العبور بالعبّارة جزءًا من سحرها اليومي.
تحديات الملاحة في مضيق مزدحم
على متن السفينة باشاباهتشه، التي تُعدّ الأيقونة الأبرز في أسطول الشركة المكوّن من ثلاثين سفينة، يؤكد القبطان أكرم أوزجيليك أن حركة الملاحة باتت أكثر ازدحامًا، مع مرور ناقلات النفط والسفن التجارية عبر المضيق الذي يربط البحر الأسود ببحر إيجه.
إحصاءات العام 2024 تشير إلى عبور أكثر من واحد وأربعين ألف سفينة، بمعدل يتجاوز المئة يوميًا، ما يجعل من البوسفور واحدًا من أكثر الممرات المائية ازدحامًا عالميًا. ويضيف القبطان أن خبرة طويلة مطلوبة لمواجهة تيارات قوية قد تولّد أمواجًا تصل إلى ثلاثة أمتار عند هبوب رياح جنوبية غربية عنيفة.
مهنة تحمل الفخر والهوية
نشأ أوزجيليك وسط عائلة من البحّارة والصيادين، وكان حلم طفولته ارتداء قبعة القبطان البيضاء. واليوم، وقد تجاوز الخمسين، يصف عمله في قلب إسطنبول بأنه مصدر فخر ومكانة اجتماعية. ويزيد هذا الفخر عندما يكون على متن باشاباهتشه، التي كادت تُحال للتقاعد قبل أن تعود إلى الخدمة عام 2022 بعد ترميم استمر عامين بمناسبة عيدها السبعين.
رغم صعوبة قيادتها مقارنة بسفن أخرى، بسبب ثقلها وتعقيدات المناورة، فإن مساعد القبطان سميح أكسوي يؤكد أن للسفينة طابعًا فريدًا وأجواءً خاصة، تتجلى في تفاصيلها الخشبية وذكريات فخامتها الباهتة.
مخاطر متجددة بين القارتين
تُبحر باشاباهتشه عادة في خط قصير لا يتجاوز عشرين دقيقة بين قاضي كوي في الجانب الآسيوي وبشيكطاش في الجانب الأوروبي، غير أن هذه الرحلات ليست خالية من التحديات. فقد أشار البحّار بوراك تميز إلى قفز بعض السباحين من برج الفتاة خلال الصيف، إضافة إلى شباك الصيد التي قد تعرقل المسار، وحتى اقتراب دراجات مائية من مقدمة السفينة.
يضم طاقم السفينة تسعة رجال، في حين تُشغَّل معظم العبارات الأخرى بستة أفراد فقط، إلى جانب العشرات من موظفي الأرصفة المنتشرين في ثلاثة وخمسين ميناءً عبر المدينة، الذين غالبًا ما تربطهم علاقات شخصية بالمسافرين الدائمين.
العبارات والذاكرة الاجتماعية
يستعيد المهندس إبراهيم بايوس، البالغ من العمر اثنين وستين عامًا والمولود في جزيرة بيوك أدا، ذكريات طفولته مع العبارات، حيث كان القباطنة يسمحون له بالصعود رغم نسيان ثمن التذكرة. ويؤكد أن هذه العلاقة الإنسانية المتوارثة تجعل الخدمة جزءًا من حياة الناس اليومية.
وعلى الرغم من أن الخدمة لا تتوقف إلا في ظروف مناخية قاسية كالعواصف والضباب الكثيف، فإن القبطان أوزجيليك يروي حادثة طريفة عندما ساعد ثلاثة طلاب من بيوك أدا للوصول إلى امتحاناتهم رغم توقف الحركة رسميًا، قائلاً بابتسامة: “لقد نجحوا جميعًا وما زالوا يزورونني حتى اليوم“.

