شهدت شوارع إسطنبول مجددًا موجة واسعة من الاحتجاجات يوم الاثنين، حيث توافدت أعداد كبيرة من الطلاب إلى الميادين، تعبيرًا عن رفضهم لاعتقال رئيس بلدية إسطنبول المعارض، أكرم إمام أوغلو، والذي أثار واحدة من أشد الأزمات السياسية في تركيا خلال السنوات الأخيرة.
اتساع رقعة الاحتجاجات وانتشارها في أنحاء البلاد
منذ اعتقال إمام أوغلو في 19 مارس، انتقلت الاحتجاجات من إسطنبول إلى أكثر من 55 ولاية من أصل 81 ولاية تركية، ما أدى إلى وقوع مواجهات بين المتظاهرين وقوات مكافحة الشغب، وسط إدانات دولية واسعة. وأسفرت هذه الاحتجاجات عن اعتقال أكثر من 1,130 شخصًا خلال الأيام الستة الماضية، من بينهم 43 شخصًا ليلة الاثنين، وفقًا لما أعلنه وزير الداخلية التركي. وشملت الاعتقالات صحفيين، من بينهم مصور يعمل لوكالة “فرانس برس”.
إمام أوغلو: من زعيم محلي إلى رمز معارض
إمام أوغلو، البالغ من العمر 53 عامًا، ينتمي إلى حزب الشعب الجمهوري (CHP)، ويُعتبر المنافس الأقوى للرئيس رجب طيب أردوغان في أي انتخابات رئاسية مقبلة. وفي غضون أربعة أيام فقط، تحول من كونه رئيسًا لبلدية إسطنبول إلى سجين سياسي، حيث تم استجوابه واعتقاله وتجريده من منصبه في إطار تحقيقات تتعلق بالفساد والإرهاب.
مشاركة طلابية واسعة وتضامن شعبي
في كل من إسطنبول وأنقرة، بدأ الطلاب منذ ظهر الاثنين بمقاطعة محاضراتهم الجامعية والتجمع في الشوارع، تعبيرًا عن رفضهم لاعتقال إمام أوغلو. وبينما كانت الحشود المتظاهرة تتجه نحو منطقة بشيكتاش على مضيق البوسفور، تفاعل سكان المدينة بقرع الأواني تضامنًا معهم.
وفي وقت لاحق، توجه المتظاهرون نحو المقر الرئيسي لبلدية إسطنبول، حاملين لافتات منددة بسياسات الحكومة. وأمام الحشود، صرح زعيم حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزيل، قائلاً: “هذه ليست مجرد مظاهرة، إنها مقاومة ضد الفاشية!”، فيما رفع المتظاهرون لافتات كُتب عليها: “القصور لكم، والشوارع لنا!”.
موقف الحكومة وردود الفعل الدولية
من جانبه، اتهم الرئيس أردوغان المعارضة بالتحريض على الاحتجاجات، مشددًا على أن حكومته تسيطر على الوضع الاقتصادي في البلاد. وصرح عقب اجتماع لمجلس الوزراء بأن “التلاعب بأعصاب الأمة يجب أن يتوقف”، مضيفًا أن الأسواق المالية تحت السيطرة رغم التقلبات الأخيرة.
ورغم هذه التصريحات، فإن تداعيات الأزمة انعكست على الأسواق، حيث تراجع مؤشر “BIST 100” بنحو 8% يوم الجمعة قبل أن يشهد بعض التعافي يوم الاثنين، مسجلًا ارتفاعًا بنسبة 3%.
على الصعيد الدولي، استنكرت دول أوروبية عديدة اعتقال إمام أوغلو، حيث وصفته ألمانيا بأنه “غير مقبول تمامًا”، فيما أكدت اليونان أن أي محاولات للمساس بالحريات المدنية “لا يمكن التسامح معها”. كما حذرت المفوضية الأوروبية أنقرة من تداعيات هذا القرار، داعيةً إلى “التزام واضح بالمعايير الديمقراطية”. أما فرنسا، فقد اعتبرت ما حدث “هجومًا خطيرًا على الديمقراطية”.
الاعتقالات تطال الصحفيين وسط مطالبات بالإفراج الفوري
في الساعات الأولى من يوم الاثنين، داهمت الشرطة منازل عشرة صحفيين، من بينهم مصور يعمل لوكالة “فرانس برس”، بسبب تغطيتهم للاحتجاجات، وفقًا لمنظمة “MLSA” الحقوقية. وأدانت نقابة الصحفيين التركية، إلى جانب العديد من المؤسسات الإعلامية، هذه الاعتقالات، مطالبةً الحكومة بوقف استهداف الصحفيين.
من جانبها، استنكرت ديلك كايا إمام أوغلو، زوجة رئيس البلدية المعتقل، هذه الممارسات، وكتبت عبر منصة “إكس”: “ما يحدث للصحفيين يُعد انتهاكًا صارخًا للحرية. لا يمكننا الصمت حيال ذلك!”.
رسالة إمام أوغلو من داخل السجن
من داخل زنزانته، وجه إمام أوغلو رسالة عبر محاميه أكد فيها صموده وعدم تراجعه عن مواقفه السياسية، قائلاً: “أرتدي قميصًا أبيض لا يمكنكم تلويثه، وأمتلك ذراعًا قوية لا يمكنكم ليّها. لن أتنازل قيد أنملة. سأنتصر في هذه المعركة”.
تداعيات الأزمة ومستقبل المشهد السياسي
يرى مراقبون أن اعتقال إمام أوغلو لم يؤدِّ فقط إلى تأجيج الاحتجاجات، بل ساهم في توحيد المعارضة خلفه، إذ اختاره حزب الشعب الجمهوري، وبأغلبية ساحقة، كمرشحه الرئاسي لانتخابات 2028. ويرى المحللون أن الخطوة التي اتخذتها الحكومة ضده جاءت كرد فعل على تصاعد شعبيته.
أما على المستوى الاقتصادي، فقد أدى التوتر السياسي إلى تفاقم أزمة الليرة التركية، وسط مخاوف من استمرار التراجع إذا لم يتم احتواء الأوضاع بسرعة. ومع استمرار الاحتجاجات وتصاعد الضغوط المحلية والدولية، يبقى المشهد مفتوحًا على كافة الاحتمالات، ما بين تصعيد المواجهة أو البحث عن حلول وسطية.
في ظل هذه التطورات، يقف المشهد التركي عند مفترق طرق حاسم: إما استمرار التوجه نحو السلطوية، أو فتح الباب أمام تحول ديمقراطي جديد.

