بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لتأسيس حزب العدالة والتنمية، قدّم الكاتب الصحفي والمحلل السياسي التركي لفند جولتكين تقييمًا شاملًا لما يسميه “تقرير حصر الأضرار” لتركيا بعد هذه الحقبة الطويلة.
جولتكين يرى أن الحصيلة النهائية لا تحمل سوى الألم والأسف، معتبرًا أن الحزب كان قادرًا على تحقيق إنجازات أكبر لو تجنب الانزلاق في “داء السياسة الدينية ” أو “الإسلام السياسي” والاتجاه نحو حكم الفرد والنزعة السلطوية.
المشهد التركي قبل أردوغان
يشير جولتكين ذو “التوجه الإسلامي الليبرالي”، على حد وصف بعض الكتاب، إلى أن تركيا قبل وصول حزب أردوغان إلى السلطة لم تكن مثالًا للنموذج الديمقراطي المثالي، فقد كانت تواجه أزمات متجذرة مثل المسألة الكردية، وقضية المساواة للعلويين، والانقسام المجتمعي، والتمييز، وحظر الحجاب، إلى جانب الفقر والتضخم المرتفع ونقص الثقة بالقضاء، مع وجود قصور في الديمقراطية وسيادة القانون. لكن رغم كل هذه الأزمات، كانت هناك “بقايا” من الديمقراطية والقضاء المستقل، وكان الأمل قائمًا بإمكانية إصلاح الوضع إذا اتحد المجتمع.
من الديمقراطية الهشة إلى النظام الفردي
يلفت جولتكين إلى أن التحوّل نحو النظام الرئاسي الاستبدادي أسس لهيمنة “الحاكم الفرد”، وقسم المجتمع إلى معسكرات متقابلة، ما أفقد البلاد القدرة على إنتاج التوافق السياسي. الإعلام المستقل اختفى تقريباً، والقضاء بات أداة بيد السلطة، بينما ترسخت عقلية “نحن وهم” في كل مؤسسات الدولة، بعد محاولة الانقلاب المثيرة للجدل في يوليو 2016 وما تلاها من إعلان حالة الطوارئ، وفصل جماعي شامل غير مسبوق.
تآكل الأمل وانهيار البنية المؤسسية
بحسب جولتكين، فإن أهم ما دمره الحزب خلال أربعة وعشرين عامًا هو الأمل نفسه، حيث قضى على ما تبقى من الديمقراطية المستترة، وأفقد القضاء استقلاله، ودمّر الثقة بالعدالة لتصل إلى مستويات متدنية جدًا مقارنة بالماضي.
وعلى الرغم من بعض الإنجازات الظاهرية في البنية التحتية والاقتصاد في السنوات الأولى، فإن السياسات القائمة على اقتصاد الريع، والاعتماد المفرط على الديون طويلة الأمد، حولت تركيا إلى واحدة من الدول الأعلى تضخمًا وفائدة في العالم.
التدهور الأخلاقي والاجتماعي
يشدد جولتكين على أن الفساد الأخلاقي الذي شهده المجتمع في هذه الفترة فاق ما كان موجودًا قبل الحزب، محولًا الفساد إلى “قيمة مقبولة” في المجتمع.
كما أدى الانحدار التعليمي إلى خفض مستوى الجامعات إلى ما يعادل خريج الثانوية، وعمّقت المحسوبية ونظام التعيينات عبر المقابلات الفاسدة شعور المواطنين بانسداد الأفق.
ويضيف أن صورة المتدين في المجتمع تعرضت لتشويه كبير، وتآكلت مكانة “الدين” في المجتمع، إذ كان يُنظر سابقًا إلى الملتزمين بالشعائر الدينية باحترام وثقة، بينما باتت هذه الفئة في نظر كثيرين مرتبطة بالفساد والسطحية والقسوة، بسبب سلوك النخبة الحاكمة الحالية.
الاقتصاد: نمو ظاهري وأزمات هيكلية
يشير جولتكين إلى أن الحزب قدّم صورة لاقتصاد منتعش عبر الطرق والجسور والمطارات والمستشفيات، لكن هذه المشاريع كانت على حساب مديونية هائلة تمتد لعقود، ضمن نماذج “البناء – التشغيل – التحويل” التي تُحمّل الأعباء المالية للأجيال القادمة. وفي المقابل، تحوّلت تركيا إلى واحدة من أعلى دول العالم في معدلات الفائدة والتضخم، بينما فُقدت العدالة في توزيع الثروة، وارتفعت معدلات الفقر.
ويرى أن هذه الإنجازات المادية لم تعوض فقدان الروح المجتمعية، إذ تحوّل المزاج العام إلى ما يشبه أجواء بيت عزاء، بينما يعيش الحزب الحاكم في عزلة عن الشارع.
هجرة العقول واليأس: تركيا كـ”سجن مفتوح”
من أخطر نتائج الحقبة – وفق جولتكين – هو فقدان الأمل في المستقبل، حيث يسعى ملايين الشباب للهجرة، على غرار ما يحدث في إيران، التي اشتكى رئيسها مؤخرا من رغبة غالبية الشباب في مغادرة البلاد. هذا الشعور بفقدان المستقبل جعل تركيا، برأيه، سجناً مفتوحاً يحاصر أحلام مواطنيه، ويفقدهم الرغبة في الزواج أو الإنجاب، ويترك أثراً مدمراً على البنية الديموغرافية.
ويحذر جولتكين من أن تطوير الصناعات الدفاعية، مثل الطائرات المسيرة، يفقد قيمته إذا لم يتوافر جيل قادر على تشغيلها، في ظل حالة الإحباط العام.
التدمير البيئي والاجتماعي
إلى جانب الفساد السياسي والأخلاقي، ينتقد جولتكين السياسات التي دمّرت البيئة، مثل إغراق مدينة حسن كيف بالمياه، وتخريب غابات كاز داغلاري، معتبرًا أن هذه الأضرار لا رجعة فيها. ويربط بين تدهور البيئة وارتفاع معدلات العنف الاجتماعي، بما في ذلك جرائم قتل النساء، كنتيجة مباشرة لانهيار البنية الأخلاقية.
مستقبل غامض ومجتمع متهالك
يخلص جولتكين إلى أن أخطر ما أنتجته الحقبة الحالية هو مجتمع فقد القدرة على إنتاج الأفراد القادرين على إصلاحه. فإصلاح الاقتصاد أو التعليم يتطلب بشرًا مؤهلين، لكن المجتمع الذي تعرض للتآكل الأخلاقي لا يمكنه أن يفرز هؤلاء. ويحذر من أن البلاد باتت شبيهة بالعراق، العاجز منذ عقود عن النهوض من كبوته، بسبب فقدان الوسط المجتمعي القادر على تحقيق المصالحة.
وفيما يلي خلاصة الإطار الزمني لسياق حكم أردوغان وفق تحليل جولتكين
2002 – 2007: مرحلة الثقة والإصلاحات المبدئية
- وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم وسط أجواء من الأمل بإنهاء الفساد وتحقيق إصلاحات ديمقراطية.
- تحسين نسبي في الاقتصاد، جذب الاستثمارات الأجنبية، وبدء مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي.
- استمرار المشكلات المزمنة (القضية الكردية، تمييز العلويين، الحجاب) لكن مع وعود بالحل.
2008 – 2013: النمو السريع وبداية الاستقطاب
- طفرة اقتصادية بفضل المشاريع العملاقة والقروض السهلة.
- توسع نفوذ الحزب في مؤسسات الدولة، وظهور بوادر هيمنة على القضاء والإعلام.
- تصاعد الاستقطاب المجتمعي خاصة بعد احتجاجات “غيزي بارك” عام 2013.
2014 – 2016: التحول السلطوي العلني
- انتخاب أردوغان رئيساً للجمهورية، مع تكريس النفوذ الشخصي.
- زيادة الضغط على المعارضة والإعلام المستقل.
- محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016 وما تلاها من إعلان حالة الطوارئ، وفصل جماعي في مؤسسات الدولة.
2017 – 2023: النظام الرئاسي والانهيار المؤسسي
- إقرار النظام الرئاسي في استفتاء 2017، وتعزيز السلطة الفردية.
- القضاء على ما تبقى من استقلال القضاء والإعلام.
- تفاقم الأزمة الاقتصادية مع تضخم قياسي وفقدان الثقة بالعملة الوطنية.
- تدهور التعليم وتراجع المستوى الأكاديمي.
- تنامي الفساد السياسي والاقتصادي، واستغلال السلطة لتوزيع المنافع على الموالين.
2024 – الآن: فقدان الأمل والهجرة الواسعة
- ملايين الشباب يفكرون في الهجرة، مع شعور عام بأن تركيا أصبحت “سجناً مفتوحاً”.
- تراجع القيم الاجتماعية، وارتفاع معدلات العنف ضد المرأة.
- خسائر بيئية وثقافية لا يمكن تعويضها، نتيجة مشاريع التنمية غير المدروسة.

