في تطور جديد ضمن حملة الاعتقالات المرتبطة بحركة “الخدمة”، اعتقلت السلطات التركية 126 شخصًا من بين مئات الموقوفين في إطار التحقيقات المتعلقة بسلسلة مطاعم “مايدونوز دونر”.
وتواجه الشركة اتهامات بتوظيف أفراد تم فصلهم بموجب مراسيم الطوارئ (KHK) وتمويل الحركة عبر أنشطتها التجارية، ما أدى إلى فرض الوصاية عليها بقرار قضائي.
تفاصيل العملية الأمنية واعتقالات واسعة النطاق
في 21 فبراير، أطلقت السلطات التركية عملية أمنية موسعة تحت اسم “كماشة-40″، مستهدفةً سلسلة مطاعم “مايدونوز دونر”، والتي بدأت في التوسع دوليًا عبر افتتاح فروع خارج تركيا.
ووفقًا لبيان وزير الداخلية التركي، علي يرليكايا، فقد تم تنفيذ العملية بشكل متزامن في 31 ولاية، وجرى اعتقال 353 شخصًا، بينهم 10 موظفين حكوميين، بزعم صلتهم بحركة “الخدمة”.
وبعد استكمال التحقيقات الأولية والاستجوابات في مراكز الشرطة، تم إحالة المعتقلين إلى النيابة العامة، ومنها إلى المحاكم المختصة. وقد قررت المحاكم المناوبة حبس 126 شخصًا، من بينهم 4 موظفين حكوميين، على ذمة التحقيق، بينما تم الإفراج المشروط عن 156 شخصًا تحت إجراءات الرقابة القضائية، في حين أطلق سراح 90 آخرين من قبل الجهات الأمنية والنيابة.
إجراءات قانونية مشددة وتعيين وصي على الشركة
ترافقت هذه الاعتقالات مع صدور قرار قضائي بفرض الوصاية على شركة “مايدونوز دونر”، في خطوة أثارت تساؤلات حول استهداف الأنشطة التجارية ذات الصلة بحركة “الخدمة”. وتعد تهمة توظيف المفصولين بموجب مراسيم الطوارئ إحدى الذرائع التي استخدمتها السلطات لتبرير العملية، رغم أن القوانين التركية لا تمنع صراحة توظيف هؤلاء الأفراد في القطاع الخاص.
تصاعد الحملة الأمنية ضد المعارضين
يأتي هذا التطور في سياق سلسلة من العمليات الأمنية المستمرة ضد المؤسسات والأفراد الذين تتهمهم الحكومة بالارتباط بحركة “الخدمة”. ومنذ محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016، شنت السلطات حملات واسعة أسفرت عن فصل أكثر من 150 ألف موظف حكومي، إضافة إلى اعتقال الآلاف بتهم تتعلق بالإرهاب والانتماء إلى جماعات محظورة.
وتثير هذه الممارسات جدلًا واسعًا داخل تركيا وخارجها، حيث تواجه الحكومة اتهامات باستخدام قوانين الطوارئ كأداة لتصفية الخصوم السياسيين وإحكام قبضتها على مختلف القطاعات، بما في ذلك قطاع الأعمال.
وكانت التغطية الإخبارية لصحيفة “قرار” حول العملية الأمنية أثارت انتقادات حادة من بعض كتّابها، حيث اعتبروا أن عنوان الصحيفة “الحكومة تنام، فيتو لا ينام” لا يتماشى مع المعايير الصحفية العادلة، متسائلين: “ماذا تريدون من هؤلاء الناس؟ هل تريدون أن يموتوا جوعًا؟”
في برنامجها الحواري على قناة “قرار” على يوتيوب، انتقدت الصحفية أليف شاكر عنوان الصحيفة قائلة: “هذا العنوان وهذه الصياغة لا تليق بنا كصحفيين يطمحون إلى العدالة. نحن أيضًا لسنا فوق النقد”.
أما الصحفي يلدرم أوغور، فسلط الضوء على المعايير المزدوجة في التعامل مع القضايا القانونية في تركيا، متسائلًا عن سبب التعامل بانتقائية مع الملفات المختلفة، وقال: “إذا بدأنا في التفريق بين المظالم، فهذا لن يمنح الثقة لأحد. إذا اعتبرنا أن القضاء سيئ في قضية معينة وجيد في أخرى، فإن ذلك يهدم مفهوم العدالة”.
التمييز في القضايا القانونية: لماذا يتم التعامل مع منظمة كولن بشكل مختلف؟
يرى النقاد أن هناك ازدواجية واضحة في تعامل النظام القضائي مع القضايا، إذ يتم تسليط الضوء على الانتهاكات القانونية ضد المعارضة السياسية، مثل اعتقال رجال الأعمال المرتبطين بجمعية رجال الأعمال والصناعيين توسياد أو قضايا رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، بينما يتم التغاضي عن نفس المعايير عندما يكون المتهمون مرتبطين بجماعة كولن أو بحزب الشعوب الديمقراطي.
وأضاف أوغور: “منذ سنوات، تم وضع آلاف الأشخاص على لوائح الإرهاب لمجرد ارتباطهم بحزب الديمقراطية والمساواة للشعوب أو مشاركتهم في اجتماع عبر تطبيق زووم، بينما يتم التعامل بنفس العقلية مع كل من له صلة بجماعة كولن”.
مصير “المتهمين”: لا عمل، لا سفر، ولا حتى حق الحياة؟
سلط الصحفيون الضوء على الظروف المأساوية التي يعيشها ضحايا مراسيم الطوارئ (KHK) والذين فقدوا وظائفهم بسبب اتهامهم بالانتماء لجماعة كولن، حيث لم يعد بإمكانهم العمل في القطاع الحكومي، كما أن القطاع الخاص يتجنب توظيفهم خوفًا من الملاحقة القانونية.
قال أوغور: “حتى لو حوكم الشخص وأطلق سراحه أو قضى عقوبته، فإن وصمة كونه (خائنًا أو متهمًا بالإرهاب) تبقى تلاحقه. إذا حاول تأسيس عمل خاص، يتعرض للإغلاق والملاحقة. فماذا يفعل هؤلاء الناس؟ هل يموتون جوعًا؟”
وفي نفس السياق، عبر عن رفضه لاستخدام مصطلح “فيتو” (منظمة فتح الله كولن)، مؤكدًا أن هذه التسمية أصبحت “مفتاحًا سحريًا” تستخدمه السلطة لقمع أي شخص تريد استهدافه، دون تقديم أدلة قانونية واضحة.
ازدواجية النظام القضائي: قبول كل الاتهامات أو رفضها جميعًا؟
انتقدت أليف شاكر تعامل القضاء مع القضايا المختلفة بانتقائية، مشيرةً إلى أن الاعتماد الأعمى على تقارير الدولة والأجهزة الأمنية يفرض علينا قبول كل الأحكام الصادرة، بما في ذلك القضايا المثيرة للجدل مثل اعتقال الناشط الحقوقي عثمان كافالا أو قضايا احتجاجات “غيزي بارك”.
وقالت: “إذا قبلنا بالأحكام القضائية في هذه القضية، فيجب أن نقبل بكل ما تقدمه الدولة، سواء تعلق الأمر بمعدلات التضخم الرسمية الصادرة عن معهد الإحصاء التركي أو الاتهامات الموجهة لكافالا أو غيره. لكن إذا كنا نشكك في هذه القضايا، فلماذا لا نطبق نفس المعايير هنا أيضًا بشأن حركة كولن؟”
رفض “تركيا الجديدة”: رفض لمنطق القمع والاستبداد
في ختام النقاش، عبرت شاكر عن رفضها لسياسات الحكومة الحالية، وخاصة تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان خلال المؤتمر العام لحزب العدالة والتنمية، التي قال فيها: “عليكم أن تعتادوا على ذلك”. فردّت بقولها: “أنا لن أعتاد على ذلك! ولن أقبل تركيا الجديدة هذه. إن كان المقصود بـ(تركيا الجديدة) قمع الحريات وإلغاء القانون، فأنا أحنّ إلى تركيا القديمة، حيث كان هناك قدر من العدالة والحرية”.
يرى مراقبون أن الانتقادات الحادة من داخل صحيفة “قرار” تعكس مدى الانقسام حتى داخل الأوساط الإعلامية الموالية نسبيًا للحكومة بشأن الممارسات القمعية المتزايدة. فبينما تصرّ السلطة على استخدام “فيتو” (منظمة كولن) كأداة سياسية، ترتفع الأصوات التي تدعو إلى معاملة جميع المتهمين بالقانون نفسه، دون انتقائية أو استهداف سياسي، مما يفتح الباب لنقاش أوسع حول العدالة في تركيا اليوم.
خلفية الاتهامات ضد الحركة
بدأ الرئيس رجب طيب أردوغان يستهدف أتباع حركة الخدمة التي تستوحي فكر فتح الله كولن الراحل عقب تحقيقات الفساد في ديسمبر 2013، التي تورط فيها ثلاثة وزراء وأبناؤهم وأفراد من عائلة أردوغان، لكن الأخير وصف تلك التحقيقات بأنها مؤامرة قضائية من قِبل الحركة للإطاحة بحكومته، واتجه منذ ذلك الحين إلى تصنيفها كمنظمة إرهابية “إعلاميا”، ثم استصدر في 2016 قرارا “رسميا” لوصفها بالإرهابية، حيث اتهمها هذه المرة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة.
غير أن الحركة نفت كل هذه الاتهامات ووصفت الأحداث الفوضوية في ليلة الانقلاب بـ”الحرب النفسية” و”عمليات الراية المُزيفة” (false flag) يقف وراءها أردوغان نفسه ليتمكن من خلق أرضية لاتهاماته الجاهزة، ووصم الحركة بالإرهابية، وبالتالي تصفية الجنرالات المعارضين لمشاريعه العسكرية في سوريا وعموم العالم العربي والإسلامي، بتهمة الانتماء إلى هذه المنظمة الإرهابية المزعومة.
يذكر أن مصطلح “الراية المزيفة” يُستخدم لوصف عمليات سرية تُنفذها جهة معينة بحيث يتم إخفاء الهوية الحقيقية للمنفذين وتوجيه التهمة لمجموعة أو دولة أخرى، بهدف خلق انطباع بأن الطرف الذي تم اتهامه زورًا هو من قام بالعمل، وذلك لتحقيق أهداف عسكرية أو سياسية أو استخباراتية. تُستخدم هذه الاستراتيجية في الغالب للتأثير على الرأي العام أو لتبرير أفعال وعمليات معينة لا يسمح لها الدستور والقوانين ولا يسوغها الجمهور في العادة.
وكان أردوغان قال صراحة عقب إعلانه حالة الطوارئ في البلاد بعد أسبوع من إحباط ما سمي بمحاولة الانقلاب الفاشلة بدعوى التصدي لـ”الانقلابيين”: “لقد حصلنا في ظل حالة الطوارئ على القدرة والإمكان من أجل تنفيذ كثير من الإجراءات التي لا يمكن أن نجريها في الظروف والأوقات العادية”، على حد قوله.
الإجراءات التي أعقبت الانقلاب
أعلنت الحكومة حالة الطوارئ بعد محاولة الانقلاب، وأصدرت مراسيم طارئة أدت وفقًا لوزارة العدل التركية إلى فصل أكثر من 130,000 موظف حكومي، بالإضافة إلى 24,706 من أفراد القوات المسلحة، إلى جانب عشرات الآلاف من المدنيين، بزعم ارتباطهم بـ”منظمات إرهابية”، علمًا أن هذه المراسيم لم تخضع لأي رقابة قضائية أو برلمانية.
وخلال السنوات الأخيرة، خضع أكثر من 705,172 شخصًا، الأغلبية الساحقة منهم مدنيون، لتحقيقات بتهم تتعلق بالإرهاب أو محاولة الانقلاب بسبب علاقتهم المزعومة بالحركة. وبلغ عدد المعتقلين حاليا في قضايا مرتبطة بالحركة حوالي 13,251 شخصًا، بين محتجزين على ذمة المحاكمة أو مدانين بتهم الإرهاب.
بين يونيو 2023 ويونيو 2024 فقط، نفذت السلطات التركية 5,543 عملية أمنية، أسفرت عن اعتقال 1,595 شخصًا على صلة بالحركة، علمًا أن هذه الأرقام تتغير بشكل مستمر نظرا لاستمرار العمليات، حيث أفاد مركز ستوكهولم للحرية أن السلطات التركية اعتقلت خلال الأسبوع الماضي 200 شخص بسبب صلاتهم المزعومة بالحركة.
بالإضافة إلى أعداد المعتقلين، هناك أكثر من 100 حالة وفاة مشبوهة، زعمت السلطات أنها انتحار، كما اضطر العديد من أتباع الحركة إلى الفرار من تركيا هربًا من حملات القمع المستمرة يوميا، وتعرض بعضهم لحالات مأساوية في الطريق، بينها الوفاة بسبب الغرق في مياه النهر أثناء العبور إلى الجانب اليوناني تمهيدا للوصول إلى مكان آمن في إحدى دول العالم.