في خطوة غير مسبوقة، أصدرت السلطات القضائية التركية فجر يوم الأحد قرارًا يقضي باعتقال رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، بتهمة الفساد المالي. غير أن هذا القرار، الذي كان من المفترض أن يكون ضربة قاضية لمسيرة إمام أوغلو السياسية، جاء بنتائج معاكسة تمامًا لما توقعه الرئيس رجب طيب أردوغان. فبدلاً من تحجيم إمام أوغلو، وجد النظام نفسه أمام موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات الشعبية التي عمّت مختلف المدن، وحتى بعض العواصم العالمية، ما يعكس حجم الغضب الشعبي المتنامي ضد سياسات الحكومة.
محاولة السيطرة الإعلامية وتأثيرها العكسي
على مدى الأيام الماضية، سخّرت وسائل الإعلام الموالية للنظام كافة إمكانياتها لتشويه صورة إمام أوغلو، متهمة إياه بالفساد ومطالبة بمحاسبته. كما دخل المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون (RTÜK) على الخط، مهددًا القنوات التلفزيونية بسحب تراخيصها في حال بثّها أي تغطية لموجة الاحتجاجات. وبالفعل، تم تقييد البث المباشر من ساحة “سراج خانه” في إسطنبول، حيث احتشد عشرات الآلاف لدعم إمام أوغلو.
ورغم هذه المحاولات، لم تفلح الحكومة في السيطرة على المشهد، إذ لجأ المواطنون إلى وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال البديلة لنقل الأخبار والمستجدات. كما عمدت السلطات إلى إبطاء الإنترنت وفرض قيود على التجمّعات العامة، لكن ذلك لم يحدّ من خروج الملايين إلى الشوارع في إسطنبول وأنقرة وإزمير ومدن أخرى، مما شكَّل رسالة واضحة بأن الشارع التركي لم يعد يخضع بسهولة لآليات القمع التقليدية.
أكرم إمام أوغلو: من مستهدف إلى رمز للمعارضة
كان إمام أوغلو أحد أبرز الأسماء المعارضة لحكم أردوغان، حيث تمكن من هزيمة مرشحي الحزب الحاكم مرتين في الانتخابات البلدية، مما جعل منه تهديدًا سياسيًا متصاعدًا. وبينما سعت الحكومة إلى القضاء عليه سياسيًا من خلال هذا الملف القضائي، جاء رد الفعل الشعبي ليمنحه زخمًا غير مسبوق. فقد أصبحت قضيته محور إجماع واسع، ليس فقط بين أنصار حزبه “الشعب الجمهوري”، بل حتى بين شريحة من الناخبين الذين سبق أن دعموا حزب العدالة والتنمية لكنهم باتوا مستائين من تراجع الاقتصاد وتصاعد القمع السياسي.
إستراتيجية أردوغان المتذبذبة: بين التصعيد والحذر
المفارقة الكبرى أن أردوغان، رغم هذا التصعيد ضد إمام أوغلو، لم يجرؤ على اتخاذ خطوة أكثر راديكالية مثل تعيين وصي لإدارة بلدية إسطنبول. وبدلاً من ذلك، اختار استهداف بلدية شيشلي، في محاولة واضحة لقياس ردّ فعل الشارع قبل التمادي أكثر. هذا التردد يعكس إدراك النظام لحساسية الموقف، حيث إن أي تصعيد إضافي قد يؤدي إلى تفجير موجة غضب أوسع لا يمكن السيطرة عليها.
ويبدو أن الرئيس التركي اعتمد تكتيك “إظهار الأسوأ وإجبار الناس على قبول الأسوأ قليلًا”، حيث أراد من خلال اعتقال إمام أوغلو اختبار مدى صمود المعارضة. لكن هذه المقامرة لم تؤتِ ثمارها، بل أظهرت أن المجتمع لم يعد خاضعًا للترهيب الإعلامي أو القضائي كما كان في الماضي.
قراءة في التحولات الاجتماعية والسياسية
ما تكشفه هذه التطورات هو أن المجتمع التركي يشهد تحولات جذرية في تعامله مع السلطة. فالممارسات القمعية التي اعتمدها أردوغان خلال العقدين الماضيين لم تعد تحقق النتائج ذاتها، حيث أصبح المواطنون أكثر وعيًا وتنظيمًا. وإذا كان النظام يعتمد على السيطرة الإعلامية كأحد أدواته الرئيسية، فإن تراجع مصداقية الإعلام الحكومي أفقده القدرة على تشكيل الرأي العام كما في السابق.
كما أن هذه الأزمة وحدّت المعارضة، حيث التفَّت طيف واسع من القوى السياسية حول إمام أوغلو، ليس فقط لدعمه كشخص، ولكن لأن القضية باتت تمثل اختبارًا لمستقبل الديمقراطية في تركيا. وهذا يشمل حتى شرائح من حزب العدالة والتنمية التي باتت تشعر بأن سياسات الحكومة لم تعد تعكس مصالحها، خصوصًا في ظل التدهور الاقتصادي المستمر.
تداعيات هذه الأزمة على الانتخابات المقبلة
مع اقتراب الانتخابات، يبدو أن هذه الخطوة قد تكون بمثابة نقطة تحوّل في المشهد السياسي. فبدلاً من إضعاف إمام أوغلو، عززت مكانته وجعلته أكثر حضورًا كمنافس قوي ضد أردوغان. وإذا استمرت هذه الاحتجاجات وتمكنت المعارضة من تحويلها إلى حركة منظمة، فقد تصبح الانتخابات المقبلة أخطر تحدٍّ يواجهه أردوغان منذ وصوله إلى الحكم.
هل اقتربت نهاية حقبة أردوغان؟
ما جرى في الأيام الأخيرة يشير إلى أن تركيا دخلت مرحلة جديدة من المواجهة السياسية بين السلطة والشعب. صحيح أن أردوغان لا يزال ممسكًا بزمام الدولة ومؤسساتها، لكنه يواجه تحديًا غير مسبوق يتمثل في شعب لم يعد يخشى النزول إلى الشارع أو التعبير عن رفضه بطرق سلمية، ولكنها حاسمة.
وعلى المدى الطويل، يبدو أن هذه الأزمة قد تكون بمثابة بداية النهاية لنموذج الحكم الذي أسسه أردوغان، حيث إن فقدانه للسيطرة على الشارع قد يمهد لتحولات سياسية كبرى لا يمكن التنبؤ بنتائجها بالكامل، لكن ما هو مؤكد أن تركيا اليوم ليست كما كانت بالأمس، وأن صوت الشعب أصبح أعلى من أي وقت مضى.

