يشهد المشهد السياسي في تركيا مؤخراً ديناميات جديدة تتعلق بالقضية الكردية، لا سيما في ظل اللقاءات الأخيرة بين ممثلي الحركة الكردية والرئيس رجب طيب أردوغان، ما أعاد إلى الواجهة تساؤلات متجددة حول إمكانية إحياء العملية السياسية المتعلقة بهذا الملف الشائك.
لقاءات سياسية تبعث رسائل إيجابية
في هذا السياق، برز تصريح النائب الكردي سِرّي سُريّا أوندر عقب لقائه مع أردوغان، حيث وصف اللقاء بأنه “إيجابي جداً”، معرباً عن تفاؤله حيال المستقبل. وشاركت برفين بولدان، الرئيسة السابقة لحزب “الديمقراطية والمساواة للشعوب”، هذا الانطباع، ووصفت اللقاء بـ”المثمر”، مشيرة إلى أن “المسار يسير بشكل جيد”.
إلا أن هذه التصريحات، على الرغم من لهجتها المتفائلة، لم تُقنع كافة المراقبين والمحللين، الذين دعوا إلى قراءة أكثر عمقاً للمشهد السياسي الحالي.
ممتازر توركونه: لا تقدم دون إصلاح بنيوي
وفي هذا الإطار، قدّم الكاتب والمحلل السياسي البارز البروفيسور ممتازر توركونه قراءة أكثر تحفظاً، مشيراً إلى أن الأجواء الإيجابية التي تعكسها تصريحات بعض الأطراف لا تكفي لتكوين رؤية واضحة عن مستقبل المسار السياسي. وأكد أن “الصراع الجوهري في تركيا لا يزال يتمحور حول سيادة القانون واستقلال القضاء”، محذراً من أن أي تقدم في القضايا التفاوضية، بما في ذلك الملف الكردي، سيظل هشّاً إذا لم يُعالج الخلل البنيوي في مؤسسات الدولة.
وأشار توركونه إلى أن الحديث عن إحياء مسار التفاوض جاء بعد تجميده فعلياً منذ 19 مارس الماضي، حيث اعتقل رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، معتبراً أن المسار “أُخرج من الثلاجة ووُضع مجدداً على النار”، في توصيف يعكس حالة التردد والمراوحة في اتخاذ خطوات ملموسة.
إشارات قضائية تعزز الأمل
ورأى توركونه أن الأمل في تحريك المسار الكردي لم ينبثق من التصريحات السياسية فقط، بل من خطوات عملية، أبرزها الإفراج عن 105 شبان اعتُقلوا على خلفية احتجاجات سابقة مرتبطة بإمام أوغلو في منطقة “سراج خانة”، بالإضافة إلى إطلاق سراح ماهر بولات، نائب الأمين العام لبلدية إسطنبول الكبرى. واعتُبرت هذه الخطوات مؤشراً على وجود إرادة لخفض التوتر السياسي وتهيئة الأرضية لمفاوضات جديدة.
دولت بهجلي: لاعب رئيسي و”حارس البوابة”
في معرض تحليله للعوامل المؤثرة في المشهد، شدد توركونه على الدور المركزي الذي يلعبه دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية، والذي وصفه بأنه “عامل محدد لإنجاح المفاوضات”. وأوضح أن بهجلي، رغم تحالفه مع أردوغان ضمن تحالف “الجمهور”، استخدم نفوذه لإعاقة الملاحقات القضائية ضد أكرم إمام أوغلو، ليس بدافع دعم شخصي، بل انطلاقاً من قناعته بأن هذه الملاحقات تُضعف المسار السياسي الكردي وتضر بالتوازن السياسي العام.
وألمح توركونه إلى أن التواصل بين بهجلي وأردوغان لا يتم عبر قنوات تقليدية، بل من خلال رسائل علنية متبادلة عبر وسائل الإعلام. ففي أحدث تصريح له، تحدث بهجلي عن ضرورة “استمرار مسار تركيا الخالي من الإرهاب” كشرط مسبق لأي تفاهم سياسي، في إشارة غير مباشرة إلى اشتراطات تتعلق بالقضية الكردية.
تصور استراتيجي أم تكتيك حزبي؟
واعتبر توركونه أن بهجلي لم يعد يتصرف بدوافع حزبية ضيقة، بل وفق تصور استراتيجي يسعى إلى ترك “بصمة في التاريخ”، واضعاً في مقدمة أولوياته استقرار الدولة ومواجهة أي مسارات تفاوضية لا تقوم على أسس ديمقراطية واضحة.
وأضاف أن قرار بهجلي بشأن مستقبل المسار السياسي قد يرتكز على تقييم لسؤال محوري: “هل يمكن للعملية السياسية أن تحقق نتائج أفضل إذا أُجريت انتخابات مبكرة؟”، وهو ما يفتح الباب أمام احتمالات تحوّل التكتيكات السياسية إلى خطوات انتخابية فعلية.
سياق إقليمي ضاغط وتحولات داخلية
وتحت هذا المناخ السياسي المركب، أشار توركونه إلى أن مستقبل المسار الكردي لا يمكن فصله عن المتغيرات الإقليمية والدولية، بدءاً من العلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة وأوروبا، ومروراً بالتطورات الأمنية في سوريا، ووصولاً إلى التصعيد المتزايد مع إسرائيل. كل هذه الملفات تخلق بيئة ضغط قد تدفع تركيا نحو إعادة الانفتاح على أوروبا، وربما نحو إحياء العملية التفاوضية الكردية ضمن رؤية أشمل لإصلاحات ديمقراطية داخلية.
موقف كردي متوازن بعد أزمة 19 مارس
وفيما يتعلق بموقف الحركة الكردية عقب أحداث 19 مارس، حيث اعتقل إمام أوغلو وانطلقت احتجاجات شعبية واسعة، رأى توركونه أن قياداتها أبدت هدوءاً وعقلانية، إذ فضلت تبنّي موقف ترقّبي بدلاً من التصعيد، وذلك بهدف تفويت الفرصة على القوى الراغبة في عرقلة أي تقارب سياسي.
نحو أفق غامض أم مرحلة انتقالية؟
خلاصة القول، وفق ما يراه توركونه ومراقبون آخرون، أن مستقبل الحل السياسي في تركيا لا يزال رهناً بجملة من العوامل المتشابكة، يأتي في مقدمتها:
- التوازنات الداخلية بين مكونات السلطة،
- مواقف الأطراف الفاعلة، وعلى رأسها دولت بهجلي،
- تطورات البيئة الإقليمية والدولية،
- واستعداد الدولة التركية لفتح بوابة إصلاح ديمقراطي جاد، لا أن تُبقيه رهينة للتكتيك السياسي.
وما بين التفاؤل الحذر والشكوك البنيوية، يبقى المسار الكردي في تركيا معلقاً على خيط رفيع، يتأرجح بين الإرادة السياسية الحقيقية والضغوط المتزايدة في الداخل والخارج.

