في ظل تصاعد التوترات في الساحل السوري، أعلنت لجنة التحقيق في جرائم الاستهداف، يوم الثلاثاء، عن التزامها بمبادئ العدالة والمساءلة، مشددةً على أنه لا أحد فوق القانون.
وأكدت اللجنة أنها ستطلب من النيابة العامة اتخاذ إجراءات قانونية صارمة بحق مرتكبي هذه الجرائم وتقديمهم للعدالة، في خطوة تعكس رغبة واضحة في الكشف عن ملابسات الأحداث الأخيرة.
غير أن تقريرًا نشرته صحيفة “العرب” اللندنية تساءل ما إذا كانت هذه التصريحات مجرد محاولة لكسب الوقت لصالح الرئيس أحمد الشرع، ريثما يتضح موقف إدارته من مسألة حماية الأقليات، وما إذا كانت جادة في ذلك أم أنها ستستخدم العنف كوسيلة لفرض الأمر الواقع.
موقف الشرع بين الالتزامات والتحديات
ويشير مراقبون، وفقا للصحيفة، إلى أن جوهر القضية لا يكمن في تصريحات الشرع المتكررة حول التزامه بمعاقبة المسؤولين عن جرائم الانتقام الطائفي، حتى لو كانوا من المقربين منه، بل في اتخاذ إجراءات فعلية تضمن عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات في المستقبل القريب. وترتبط هذه المسألة بموقف الشرع نفسه من التجاوزات التي ارتكبتها القوات الرديفة، وهي تشكيلات عسكرية غير نظامية تضم خليطًا من السوريين والمقاتلين الأجانب الذين دعموا إدارته على مدى السنوات الماضية.
ويجد الرئيس السوري نفسه في مرحلة حاسمة، خاصةً في ظل ما يوصف بـ”مرونة” الموقف الغربي، حيث لا تزال الشكوك قائمة حول مدى التزامه بحماية الأقليات، وسط ضغوط لإيضاح طبيعة الهجوم على المناطق العلوية في الساحل السوري، وما إذا كانت عمليات القتل الطائفي تمت بقرار مركزي أم نتيجة قرارات محلية اتخذها قادة ميدانيون.
وفي مقابلة أجراها مع وكالة “رويترز” يوم الاثنين، زعم الشرع أن بعض الجماعات المسلحة دخلت المنطقة دون تنسيق مسبق مع وزارة الدفاع، مشيرًا إلى أنه لم يتمكن بعد من تحديد مدى تورط القوات الحكومية، التي دمجت فصائل معارضة سابقة تحت قيادتها، في الجرائم التي وقعت.
ورغم محاولاته للتغطية على ما جرى في الساحل السوري، من خلال إبرام اتفاقات مع الأكراد وربما مع وجهاء السويداء، إلا أن هذه الاستراتيجيات لن تكون كافية لاحتواء الأزمة، التي باتت تشكل عامل ضغط كبيرًا على الإدارة الجديدة في دمشق. وسيكون الشرع بحاجة إلى إثبات أن ما حدث كان نتيجة “انفلات وتجاوزات” وليس سياسة ممنهجة، وإلا فإن التهم ستوجه إلى الإدارة ذاتها، التي لا تزال تحتفظ بجذورها الفكرية المتصلة بـ”هيئة تحرير الشام”، التي تُعد امتدادًا لتنظيم القاعدة.
هل هي “عملية راية زائفة”؟
ومن الجدير بالملاحظة أن موجة العنف توقفت بشكل مفاجئ بمجرد أن قررت الإدارة الجديدة وقف هجومها على المناطق العلوية، وهو ما يثير التساؤلات حول مدى عفوية هذه العمليات. فعلى العكس من الجماعات غير المنضبطة التي تواصل عملياتها حتى يتم احتواؤها، فإن التوقف المفاجئ يشير إلى إمكانية وجود قرارات سياسية أو عسكرية خلف الأحداث.
رغم قلة عددهم، يرى بعض المحللين العرب أن الهجمات العنصرية التي شهدها الساحل السوري ربما تكون “عملية راية زائفة” نفذتها جهات متغلغلة داخل أجهزة السلطة، تعمل لصالح دول تسعى إلى توسيع نفوذها في سوريا، بهدف الإطاحة بأحمد الشرع. وفي الواقع، تحمل هذه الأحداث أوجه تشابه مع المجازر التي وقعت في تركيا خلال التسعينيات، مثل مجزرتي “باشباغلار” و”ماديماك”، اللتين استهدفتا إثارة صراع طائفي بين العلويين والسنة وخلق حالة من الفوضى. ومع ذلك، من الصعب حاليًا الجزم بأي من هذه السيناريوهات أقرب إلى الحقيقة.
الضغوط الدولية وانعكاساتها على الإدارة السورية
وتزايدت الضغوط الدولية على الإدارة السورية عقب تقارير صادرة عن “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، والتي أكدت مقتل المئات من المدنيين في القرى ذات الأغلبية العلوية، فضلاً عن شهادات تتحدث عن ارتكاب أجانب لمجازر بحق هذه الفئة. وقد أثارت هذه التقارير قلق السوريين، نظرًا لما تحمله من أوجه تشابه مع ممارسات “هيئة تحرير الشام” وحلفائها خلال السنوات الماضية، التي اتسمت بالتفجيرات الانتحارية وعمليات الاغتيال والخطف.
شهادات الناجين وتوثيق الجرائم
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي شهادات لناجين أو شهود عيان تحدثوا عن تعرضهم أو معارفهم لهجمات نفذتها قوات أجنبية ضمن التشكيلات الرديفة المتحالفة مع القوات الحكومية. وكانت من أبرز هذه الشهادات ما أدلت به الممثلة السورية نور علي، التي روت مشاهداتها خلال الأحداث الدامية في جبلة، مؤكدة أنها تعرضت لإطلاق نار أثناء تصوير مجريات الأحداث قرب منزلها، مشيرة إلى اقتحام المسلحين للبيوت، حيث كان بينهم مقاتلون من الشيشان وعناصر أجنبية محسوبة على الجماعات التكفيرية.
مصير التحقيقات واحتمالات المساءلة
ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان تشكيل لجنة التحقيق سيُبدد مخاوف السوريين بشأن منع تكرار مثل هذه الفظائع مستقبلاً، أم أنه سيقتصر على تقديم عدد محدود من المقاتلين كأكباش فداء، بهدف تبرئة الإدارة ورئيسها وحماية الجماعات الرديفة من أي مساءلة حقيقية.
وفي مؤتمر صحفي متلفز، صرح المتحدث باسم اللجنة، ياسر الفرحان، قائلًا: “لا أحد فوق القانون. اللجنة ستقدم كل ما تصل إليه من نتائج إلى رئاسة الجمهورية وإلى القضاء”، مشددًا على “استقلالية اللجنة والتزامها بالحياد والموضوعية”، مع وضع آليات واضحة لمقابلة الشهود، وزيارة المواقع المستهدفة، وضمان التواصل مع الجهات المعنية.
وأضاف الفرحان أن اللجنة ستستمع إلى الشهادات بشكل مباشر، وستُحيل أي شخص تقتنع بتورطه إلى القضاء.
الموقف الأممي والدعوات إلى تحقيق دولي
وفي سياق متصل، أعربت “مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان” عن قلقها العميق إزاء التقارير التي تفيد بمقتل عائلات بأكملها في الساحل السوري، خلال عملية عسكرية نفذها الجيش السوري ضد مسلحين موالين للنظام السابق. وأكدت المفوضية أن هذه الجرائم تحمل دلالات خطيرة على استمرار العنف الطائفي في البلاد، مما يستوجب تحقيقًا دوليًا شاملاً لضمان المساءلة ومنع تكرار مثل هذه الفظائع.

