في تصعيد جديد للتوتر بين الحكومة التركية والمعارضة، أوقفت السلطات ثلاثة صحفيين بعد بث مكالمة هاتفية بين الصحفي باريش بَهلِفان وخبير قضائي معين من قبل المحكمة واجه اتهامات بالتحيز من قبل رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو.
وأعلنت النيابة العامة في إسطنبول أن توقيف الصحفيين جاء على خلفية تسجيل ونشر محتوى غير مصرح به، في انتهاك للمادة 133/3 من قانون العقوبات التركي، التي تجرّم تسجيل ونشر المحادثات الخاصة دون إذن، بالإضافة إلى المادة 277، التي تحظر التأثير على شهود أو خبراء معينين من قبل القضاء.
تصاعد القلق بشأن حرية الصحافة واستقلال القضاء
أثار هذا التطور موجة قلق متزايدة بشأن حرية الصحافة واستقلال القضاء في تركيا، حيث تواجه وسائل الإعلام المعارضة ضغوطًا قانونية متزايدة.
وأدانت شخصيات سياسية معارضة، على رأسها رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، هذه الاعتقالات بشدة، واصفًا إياها بأنها “محاولة لنشر الخوف وإسكات الصحفيين”.
وكتب إمام أوغلو على منصة إكس: “تركيا دخلت حقبة جديدة من ’المساس بالمحظورات يعني الاحتراق‘. نرى كيف يتم استغلال السلطة القضائية بشكل واضح لنشر الخوف في المجتمع. لكننا لن نخاف، ولن نبقى صامتين.”
تفاصيل الاعتقال والاتهامات الموجهة للصحفيين
أكدت بلدية إسطنبول الكبرى أن باريش بَهلِفان، وهو كاتب صحفي ومعلق سياسي، تم احتجازه داخل مقر Halk TV في إسطنبول، بينما تم توقيف سرحان عسكر، مدير الأخبار في القناة، في مطار إزمير أثناء سفره لأحد البرامج، في حين أُلقي القبض على سِدا سِلك، مقدمة البرنامج الذي بُثّت خلاله المكالمة، في موقع منفصل بإسطنبول.
ووفقًا للنيابة العامة، فإن الصحفيين يواجهون عقوبات تصل إلى خمس سنوات سجن وغرامة مالية تصل إلى 4000 يوم من الأجر لانتهاكهم قوانين الخصوصية، بينما قد يؤدي اتهامهم بمحاولة التأثير على خبير قضائي إلى أحكام بالسجن تتراوح بين سنتين وأربع سنوات.
خلفية القضية والمكالمة المثيرة للجدل
يعود الجدل إلى 27 يناير، عندما بث بَهلِفان عبر قناة Halk TV مكالمة هاتفية مسجلة دون إذن مع خبير قضائي يُعرف بالأحرف الأولى من اسمه S.B.، والذي كان قد كُلف بمراجعة قضايا تتعلق بمشاريع بلدية إسطنبول والبلديات الأخرى التي يقودها حزب الشعب الجمهوري (CHP). خلال المكالمة، ناقش الخبير التحقيقات الجارية في عقود بلدية إسطنبول، مما أثار اتهامات باستخدام القضاء لاستهداف رؤساء البلديات المعارضين.
وكان إمام أوغلو قد اتهم في وقت سابق الخبير القضائي بالتحيز والتلاعب بالأدلة للإضرار بالبلديات التي يديرها حزبه. وبعد بث المكالمة، أعلنت النيابة العامة عن فتح تحقيق عاجل، مشيرة إلى أن الكشف العلني عن هوية الخبير القضائي قد يؤثر على مجريات القضايا قيد النظر، وأن مزيدًا من الأشخاص الذين أعادوا نشر محتوى المكالمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي قد يواجهون أيضًا إجراءات قانونية.
أبعاد سياسية: استهداف إمام أوغلو كمنافس محتمل لأردوغان
تأتي هذه التطورات في وقت يواجه فيه إمام أوغلو ضغوطًا قانونية متزايدة، إذ يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره أحد أبرز المنافسين المحتملين للرئيس رجب طيب أردوغان في انتخابات 2028. ويواجه رئيس بلدية إسطنبول عدة قضايا قضائية، بما في ذلك استئناف حكم بالسجن لمدة سنتين وسبعة أشهر، وهو حكم قد يؤدي إلى منعه من ممارسة العمل السياسي إذا تم تأييده.
وكان إمام أوغلو قد صرّح في وقت سابق بأن الخبير القضائي الذي ظهر في المكالمة المسربة لديه “تاريخ من تقديم تقارير منحازة” ضد البلديات التي يديرها حزب الشعب الجمهوري. ولم تكتفِ النيابة العامة بالتحقيق في قضية الصحفيين، بل أعلنت عن فتح تحقيق منفصل ضد إمام أوغلو نفسه، بتهمة “استهداف خبير قضائي علنًا”.
المعارضة تتهم الحكومة بتسييس القضاء
وسط هذه التطورات، صعّدت المعارضة من انتقاداتها للحكومة، متهمة إياها باستخدام القضاء كأداة لقمع الأصوات المعارضة. ووصف زعيم حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزل، الاعتقالات بأنها “جزء من حملة الحكومة ضد المعارضة”، مشيرًا إلى أن السلطة تستخدم النظام القضائي لـ”تصعيد الضغط السياسي وإسكات المنتقدين”.
في المقابل، رفض أردوغان وحكومته هذه الاتهامات، وصرّح خلال خطاب له في محافظة قونية وسط الأناضول، قائلاً: “المعارضة تحاول الضغط على القضاء، لكنها ليست فوق القانون. لا أحد، بما في ذلك السيد إمام أوغلو، فوق القانون. القضاء سيقوم بعمله، وعليكم احترام قراراته سواء أعجبتكم أم لا.”
حرية الصحافة في تركيا: أزمة متفاقمة
أثارت هذه الاعتقالات مجددًا الجدل حول حرية الصحافة في تركيا، والتي شهدت تراجعًا حادًا في السنوات الأخيرة. ووفقًا لمؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2024 الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود، تحتل تركيا المرتبة 158 من أصل 180 دولة، في ظل سيطرة الحكومة الواسعة على الإعلام واعتقال الصحفيين بشكل متكرر.
صراع على مستقبل الإعلام والسياسة
تكشف هذه القضية عن صراع أوسع حول مستقبل الإعلام والمعارضة السياسية في تركيا، في وقت تتزايد فيه المخاوف من تسييس القضاء لتضييق الخناق على الأصوات المنتقدة للحكومة. ومع اقتراب انتخابات 2028، يبقى السؤال الأبرز: هل ستتمكن المعارضة من الصمود في وجه الضغوط المتزايدة، أم أن الحكومة ستنجح في فرض مزيد من السيطرة على المشهد السياسي والإعلامي؟