في مشهد سياسي تركي تتقاطع فيه التحولات الداخلية للمعارضة مع محاولات السلطة إعادة رسم خريطتها، برزت في الأيام الأخيرة إشارات لافتة من قيادات سابقة في حزب العدالة والتنمية الحاكم تُظهر استعدادًا للتعاون مجددًا مع الرئيس رجب طيب أردوغان، بعد سنوات من القطيعة السياسية والانشقاق.
رسائل انفتاح من داود أوغلو وباباجان
زعيم حزب المستقبل أحمد داود أوغلو، الذي شغل منصب رئيس الوزراء بين عامي 2014 و2016، أعلن خلال مقابلة تلفزيونية أنه لن يتردد في تقديم المساعدة للدولة إذا دُعي لذلك، قائلاً إنّ “واجبه الوطني يفرض عليه التدخل في حال واجهت البلاد أزمة سياسية أو اقتصادية خانقة.”
لكنه شدّد في الوقت نفسه على رفضه لأي مناصب رمزية خالية من الصلاحيات، مؤكدًا أن “السلطة يجب أن تكون متوازنة مع المسؤولية.”
في الاتجاه ذاته، أدلى زعيم حزب الديمقراطية والتقدم علي باباجان، وهو أحد أبرز مهندسي السياسة الاقتصادية لحكومات العدالة والتنمية السابقة، بتصريحات مشابهة خلال مقابلة مع قناة موالية للحكومة، قال فيها إنه لا يحمل أي ضغينة شخصية تجاه أردوغان، وإنه لن يغلق الباب نهائيًا أمام التعاون السياسي، رغم إشارته إلى غياب “الإرادة الحقيقية للإصلاح” داخل الحزب الحاكم.
صورة برلمانية تثير الجدل
جدّدت تصريحات داود أوغلو وباباجان الجدل الذي أعقب صورة التقطت لهما إلى جانب أردوغان أثناء افتتاح الدورة التشريعية للبرلمان التركي في الأول من أكتوبر الجاري.
الصورة التي جمعت الرئيس بزعماء المعارضة الحاضرين، بينهم زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي، ورئيس حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب الكردي تونجر بكرهان، بدت كأنها رسالة سياسية مدروسة تهدف إلى إظهار أردوغان بمظهر الزعيم الجامع للتيارات المتباينة، في وقت يتزايد فيه القمع ضد الأصوات المعارضة.
على النقيض، قاطع حزب الشعب الجمهوري مراسم الافتتاح احتجاجًا على ما وصفه بتقويض الديمقراطية الدستورية، وترك نوابه زهورًا على مقاعدهم الفارغة كرمز لغياب العدالة وسجن رؤساء البلديات والمعارضين.
مشهد المعارضة المنقسم
تأتي هذه التطورات بينما تمر المعارضة التركية بمرحلة انقسام وتراجع، خصوصًا بعد اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو في مارس الماضي، وهو أبرز وجوه حزب الشعب الجمهوري والمنافس الرئاسي السابق لأردوغان.
كما يواجه الحزب حملة اعتقالات واستهداف قضائي طالت أحد عشر رئيس بلدية، فيما انضم عدد من رؤساء البلديات المحليين إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم.
منذ العام الماضي، تتبع الحكومة استراتيجية مزدوجة تقوم على تشديد الضغط على حزب الشعب الجمهوري من جهة، وفتح قنوات اتصال مع الأحزاب المنشقة عن العدالة والتنمية وحزب المساواة والديمقراطيةللشعوب من جهة أخرى، في محاولة لإعادة تشكيل معادلة “المعارضة المقبولة” سياسيًا.
من الانشقاق إلى إعادة التموضع
كل من داود أوغلو وباباجان كانا من الركائز الأساسية في مشروع العدالة والتنمية منذ بداياته. غادرا الحزب بعد تصاعد الاستبداد داخل مؤسسات الدولة وتآكل التوازن بين السلطات.
أسس باباجان حزب الديمقراطية والتقدم عام 2020، بعد عام من تأسيس داود أوغلو حزب المستقبل، لينضما معًا إلى تحالف المعارضة المعروف بـ«الطاولة السداسية»، الذي ضم أيضًا حزب الشعب الجمهوري، وحزب الجيد، وحزب السعادة، وحزبين من التيار الوسطي.
ورغم نجاح التحالف في توحيد صفوف المعارضة قبل انتخابات 2023 الرئاسية، إلا أنه انهار عقب هزيمة كمال كليجدار أوغلو أمام أردوغان، في ظل تصاعد الخلافات الداخلية وفشل الأحزاب المشاركة في صياغة استراتيجية مشتركة لما بعد الانتخابات.
محاولات لإحياء التحالفات
في مطلع العام الجاري، أعلنت أحزاب المستقبل والديمقراطية والتقدم والسعادة عن تشكيل تكتل برلماني جديد تحت اسم “الطريق الجديد”، يهدف إلى تنسيق مواقف المعارضة داخل البرلمان دون فقدان الهوية السياسية لكل حزب.
ورغم هذا التحرك، يرى مراقبون أن التحالفات الصغيرة لم تعد تملك ثقلًا سياسيًا حقيقيًا أمام النظام الرئاسي المهيمن، ما يفسّر ميل بعض قادتها إلى فتح قنوات تواصل مع السلطة.
كليجدار أوغلو ينفي نوايا العودة
على صعيد متصل، نفى الزعيم السابق لحزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو الأنباء التي تحدثت عن تأسيسه حركة سياسية جديدة، مؤكدًا أنه لا يعتزم العودة إلى العمل الحزبي بعد خسارته رئاسة الحزب.
جاء نفيه عقب تداول أنباء عن اجتماعات مغلقة لأنصاره بهدف تأسيس حزب بديل للطعن في نتائج المؤتمر الأخير الذي أتى بزعيم الحزب الحالي أوزجور أوزيل.
وكانت محكمة تركية قد رفضت الأسبوع الماضي دعوى تطعن في نتائج المؤتمر بدعوى “تزوير التصويت”، ما عزز موقع القيادة الجديدة داخل الحزب.

