في خطوة تحمل دلالات سياسية عميقة، زار الرئيس السوري أحمد الشرع أمس موسكو، حيث التقى نظيره الروسي فلاديمير بوتين في قصر الكرملين، في زيارة تعكس توجهاً واضحاً من دمشق نحو إعادة ضبط علاقاتها مع روسيا ضمن سياسة خارجية جديدة تقوم على البراغماتية وتوازن المصالح، بعيداً عن الاصطفافات التقليدية.
تحوّل دبلوماسي نحو التوازن لا الارتهان
أكّد الرئيس السوري خلال اللقاء أن بلاده تسعى إلى إعادة تعريف العلاقة مع موسكو على نحو يضمن استقلال القرار الوطني، وصون السيادة السورية ووحدة الأراضي، وتعزيز الاستقرار الأمني. وأوضح أن جزءاً مهماً من الاقتصاد السوري يعتمد على الإنتاج الروسي، سواء في مجال الغذاء أو الطاقة، مشيراً إلى أن التعاون الاقتصادي يشكل أحد ركائز العلاقة بين البلدين.
من جانبه، رحّب بوتين بالشرع بحرارة أمام عدسات الكاميرا، مؤكداً أن العلاقات بين موسكو ودمشق تقوم منذ عقود على مصالح الشعب السوري، وأن روسيا ما تزال تنظر إلى سوريا كحليف استراتيجي. وكشف أن أكثر من أربعة آلاف طالب سوري يدرسون حالياً في الجامعات الروسية، معرباً عن أمله بأن يسهم هؤلاء في بناء مستقبل “الدولة السورية الجديدة”.
ملفات اقتصادية وأمنية على الطاولة
أفادت مصادر حكومية سورية بأن مباحثات موسكو تناولت ملفات اقتصادية واستثمارية، من بينها وضع القاعدتين الروسيتين في حميميم وطرطوس، إضافة إلى ملف إعادة تسليح الجيش السوري الجديد.
وتُعد القاعدتان العسكريتان الروسيتان، الجوية في حميميم والبحرية في طرطوس، الوجود العسكري الأجنبي الوحيد لموسكو خارج فضاء الاتحاد السوفياتي السابق، وقد لعبتا دوراً محورياً في دعم نظام الأسد منذ العام 2015 وحتى انهياره في نهاية العام الماضي.
زيارة الشرع إلى موسكو حملت مؤشرات على قدرة القيادة السورية الجديدة على تجاوز الخصومة مع روسيا رغم ماضيها الداعم للأسد، وهو ما يعكس توجهاً عملياً نحو إعادة بناء العلاقات على أساس المصلحة الوطنية لا الذاكرة السياسية.
دمشق الجديدة: براغماتية تتجاوز الخصومات
وفق تحليل صحيفة “العرب” اللندنية، يؤكد خطاب الشرع أن سوريا الجديدة لا تريد الارتهان إلى أي محور بعينه، سواء الروسي أو الغربي، بل تسعى إلى بناء علاقات متوازنة تخدم استقرارها الداخلي وموقعها الإقليمي.
وأشار الرئيس السوري إلى أن “استقرار سوريا مرتبط بالاستقرار الإقليمي والعالمي”، مؤكداً أن إعادة ضبط العلاقة مع روسيا تأتي في هذا السياق، وأن دمشق تحترم جميع الاتفاقيات الموقعة مع موسكو، بما فيها الترتيبات المتعلقة بالوجود العسكري.
ويرى مراقبون أن الشرع يسعى من خلال هذه المقاربة إلى تحييد أثر الانقسام الدولي على الداخل السوري، وتوسيع دائرة التحالفات بما يسمح بجذب الاستثمارات وتخفيف حدة العقوبات الاقتصادية.
رسائل سياسية تتجاوز الماضي
تُظهر الزيارة أن الشرع يتعامل مع العلاقة مع روسيا بمنطق المصالح لا المشاعر السياسية، بعد سنوات من التوتر بسبب دعم موسكو للأسد خلال الحرب السورية. فالرئيس الجديد لا ينظر إلى موسكو كخصم، بل كشريك محتمل في إعادة الإعمار، وكمصدر رئيسي للطاقة والقمح والتكنولوجيا، وهو ما أكد عليه خلال اللقاء حين قال إن “البلدين تربطهما جسور تعاون جادة، بما في ذلك التعاون الاقتصادي“.
وتأتي الزيارة في وقتٍ تشهد فيه سوريا تحسناً نسبياً في موقعها الدبلوماسي، بعد مشاركتها في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإلقاء الشرع كلمة وُصفت بأنها “تاريخية”، إلى جانب مؤشرات على انفتاح غربي جزئي تمثل في رفع واشنطن جزءاً من العقوبات التي فرضت بموجب قانون قيصر، بعد أن أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي تعديلاً ينهي العمل ببنود هذا القانون.
موسكو ودمشق: تعاون نقدي وغذائي متجدد
على الصعيد الاقتصادي، شكّلت العلاقات النقدية والتموينية بين البلدين محوراً مهماً في المباحثات. فقد أعادت روسيا خلال الأشهر الماضية شحنات من العملة السورية المطبوعة إلى دمشق، إلى جانب شحنات من وقود الديزل، في أول إمداد مباشر من هذا النوع منذ أكثر من عقد.
وتُعد هذه الشحنات ذات أهمية كبيرة لاقتصاد دمشق الذي يعاني من نقص حاد في السيولة النقدية نتيجة الحرب الطويلة وتأخر وصول الإمدادات الروسية في فترات سابقة.
كما استؤنفت واردات القمح الروسي إلى سوريا لأول مرة بعد الإطاحة بالأسد، حيث وصلت شحنة أولى إلى ميناء اللاذقية في أبريل الماضي، تقدر بستة آلاف طن، في خطوة تُعدّ إشارة عملية إلى عودة العلاقات الاقتصادية إلى مسارها الطبيعي.
موقف حذر من ملف الأسد
أوساط سورية مطلعة استبعدت أن تكون زيارة الشرع إلى موسكو قد تضمنت طلباً رسمياً باستعادة بشار الأسد، معتبرة أن اهتمام القيادة الحالية يتركز على تحسين العلاقات الاقتصادية وخفض التوتر السياسي مع موسكو بما يخدم الاستقرار الداخلي. وأضافت أن أي مطالبة بعودة الأسد، إن وُجدت، ستكون شكلية فقط، بهدف استرضاء الرأي العام السوري وليس لإحداث تغيير فعلي في المعادلة السياسية.
مؤشرات على براغماتية إقليمية جديدة
تعكس تحركات الشرع أن دمشق تسير نحو مرحلة جديدة من الدبلوماسية الواقعية، تقوم على تجاوز الانقسامات القديمة وبناء شراكات مرنة توازن بين الشرق والغرب، بما يتيح لسوريا إعادة تموضعها في الساحة الدولية واستعادة مكانتها الإقليمية دون الدخول في تحالفات مغلقة.

