في تحول تاريخي طال انتظاره، صوّت مجلس الأمن الدولي لصالح اعتماد مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كأساس واقعي لتسوية النزاع في الصحراء المغربية، منهياً عقودًا من الجمود السياسي.
القرار الذي أيدته إحدى عشرة دولة من أعضاء المجلس، مع امتناع روسيا والصين وباكستان عن التصويت وغياب الجزائر عن المشاركة، مثّل لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة، وفتح الباب أمام مفاوضات جديدة تستند إلى مقترح المغرب الذي قُدّم لأول مرة إلى الأمم المتحدة عام 2007.
كما تم تجديد ولاية بعثة الأمم المتحدة “مينورسو” لعام إضافي، لمواصلة مراقبة وقف إطلاق النار والإشراف على التطورات الميدانية، في خطوة تهدف إلى تثبيت الاستقرار ودعم العملية السياسية الأممية.
انتصار للدبلوماسية الواقعية المغربية
يعكس القرار الأممي ثمرة نهج دبلوماسي متزن انتهجه المغرب بقيادة الملك محمد السادس، قائم على الواقعية السياسية وبناء التحالفات الدولية، وفق تقرير نشرته صحيفة “العرب” اللندنية. فقد تمكنت الرباط من حشد دعم متزايد لمبادرة الحكم الذاتي من قِبل قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا وهولندا، إضافة إلى دعم أفريقي وعربي واسع من دول مثل الإمارات والسنغال.
هذا الدعم لم يكن سياسيًا فحسب، بل ترجمه تعاون اقتصادي متنامٍ، شمل اتفاقيات شراكة زراعية مع الاتحاد الأوروبي تغطي منتجات الأقاليم الجنوبية، واستثمارات أميركية وفرنسية في مجالات الطاقة المتجددة والبنى التحتية. ومع تثبيت القرار، يتجه المغرب نحو تعزيز دوره كمحور اقتصادي بين أوروبا وأفريقيا، ما من شأنه خلق فرص تنمية جديدة وتوطيد الاستقرار في مناطقه الجنوبية.
خطاب ملكي يرسم معالم المرحلة المقبلة
في خطاب استثنائي وُصف بالتاريخي، رحّب العاهل المغربي الملك محمد السادس بتصويت مجلس الأمن، معتبرًا أن “هناك ما قبل 30 أكتوبر وما بعده”، في إشارة إلى بداية مرحلة جديدة من الحل السياسي الواقعي.
وأكد الملك أن المغرب سيعمل على تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي لتقديمها مجددًا إلى الأمم المتحدة كأساس وحيد للتفاوض، داعيًا سكان مخيمات “تندوف” إلى العودة إلى الوطن والانخراط في عملية التنمية المحلية ضمن إطار الحكم الذاتي.
كما وجّه الملك دعوة مباشرة إلى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لـ”حوار أخوي صادق” يهدف إلى تجاوز الخلافات وبناء علاقات جديدة قائمة على الثقة وحسن الجوار، مؤكدًا أن المغرب لا يسعى إلى انتصار على حساب أحد، بل إلى حل لا غالب فيه ولا مغلوب.
الجزائر أمام مفترق طرق
تمثل اللحظة الحالية فرصة حقيقية للجزائر لإعادة صياغة سياستها الإقليمية بعد عقود من التوتر. فالقرار الأممي لا يفرض معادلة المنتصر والمنهزم، بل يفتح أفقًا للتعاون الإقليمي في مجالات الاقتصاد والطاقة والأمن. إعادة فتح الحدود بين البلدين يمكن أن تحوّل شمال أفريقيا إلى فضاء تكاملي، تستفيد فيه الجزائر من منفذ مباشر إلى المحيط الأطلسي عبر الأراضي المغربية لتصدير منتجاتها الطاقية، بينما يفتح المغرب أبواب السوق الجزائرية أمام منتجاته الصناعية والزراعية.
انعكاسات إقليمية واستراتيجية
يمثل هذا القرار تحولًا في المقاربة الدولية لملف الصحراء، إذ انتقل من مرحلة “تصفية الاستعمار” إلى مرحلة “تثبيت السيادة الوطنية” ضمن إطار حل سياسي عملي وذي مصداقية. وقد عبّرت الولايات المتحدة عن دعمها الكامل للقرار، مشيدة بالدور البناء للمغرب وبجهود المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا في تقريب وجهات النظر، مؤكدة استعدادها لاستضافة جولة مفاوضات جديدة برعاية أممية.
يأتي ذلك في سياق دولي يشهد اعترافات متتالية بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وتنامي قناعة لدى القوى الكبرى بضرورة تبني حلول واقعية تُنهي حالة الجمود التي طالت نصف قرن. كما يُتوقع أن يسهم القرار في تعزيز موقع المنطقة المغاربية كشريك استراتيجي للاتحاد الأوروبي في ملفات الطاقة والهجرة والأمن.
أبعاد إنسانية وتنموية
تفتح مبادرة الحكم الذاتي الباب أمام تسوية إنسانية عادلة تُنهي معاناة سكان المخيمات، وتعيد إدماجهم في نسيج التنمية الوطنية. كما يُتوقع أن يؤدي الاستقرار السياسي إلى إطلاق مشاريع تنموية واعدة في مجالات الطاقة المتجددة والبنية التحتية والتعليم، بما يحسن حياة السكان المحليين ويعزز الانتماء الوطني.
في المقابل، سيعود الاستقرار الإقليمي بالنفع على موريتانيا التي ستستفيد من تعزيز الأمن في منطقة الساحل والصحراء، ومن ازدهار التجارة الحدودية وتقلص تهديدات الإرهاب والجريمة المنظمة.
نحو اتحاد مغاربي جديد
يرى المراقبون أن الخطاب الملكي الأخير يشكل خارطة طريق لإحياء الاتحاد المغاربي على أسس جديدة من التعاون والتكامل الاقتصادي. فالتكامل بين الموارد الطاقية الجزائرية والتجارب التنموية المغربية يمكن أن يحوّل المنطقة إلى كتلة اقتصادية مؤثرة في مواجهة التحديات العالمية، من أزمة الطاقة إلى تغيّر المناخ.

