بقلم: يوكسيل دورغوت
في زمن الترف الفاحش… يرحل رجل الزهد في صمت
بين قصور الرؤساء المذهّبة ومواكب الملوك المحاطة بالحرس والحرير، رحل خوسيه “بيبي” موخيكا، رئيس الأوروغواي الأسبق، في صمتٍ يشبه حياته، دون ضجيج إعلامي ولا تأبينات فخمة. رجلٌ اختار أن يعيش كمزارع لا كزعيم، وأن يقترب من الناس لا أن يتعالى عليهم، تاركًا وراءه إرثًا أخلاقيًا يجلجل في وجه الطغاة الجدد.
موخيكا… رئيس لا يشبه رؤساءنا
رئيسٌ لم يسرق من خزينة الدولة قرشًا، بل تبرّع بـ90٪ من راتبه للفقراء، ورفض العيش في القصر الرئاسي مفضّلًا منزلاً طينيًا في مزرعته، يقود سيارته الفولكسفاغن القديمة موديل 1987 بنفسه.
في حين يتنقل زعماء العالم في طائرات خاصة وتُزيَّن حماماتهم بصنابير من الذهب، كان موخيكا يستيقظ على أصوات الدجاج في مزرعته. “لا أحب لقب أفقر رئيس في العالم”، كان يقول، “بل العالم مجنون لأنه يُدهش من البساطة”.
من سجين سياسي إلى رمز عالمي
موخيكا، الذي وُلد ثائرًا ومات بسيطًا، كان في شبابه عضوًا في حركة توباماروس اليسارية المسلحة. اختطف دبلوماسيين، سرق بنوكًا لتوزيع الأموال على الفقراء، وقضى 14 عامًا في الزنازين الانفرادية، في ظروف مهينة بين الجرذان والرطوبة. قال ذات مرة: “كنت أراقب النمل، لقد كانوا الشيوعيين الحقيقيين. سنفنى نحن، وسيبقون هم.”
لكن السجن لم يكسر فيه الحلم، بل طهّره من الغضب وزرع فيه تعاطفًا إنسانيًا خالصًا. وعندما أصبح رئيسًا عام 2010، رفض الموكب الرسمي واكتفى بقبلة من زوجته، ورفض 42 خادمًا مخصصين للقصر الرئاسي.
السياسة بلا جشع: عدالة اجتماعية لا شعارات
خلال فترة حكمه، أطلق إصلاحات جذرية، من تشريع زواج المثليين إلى تقنين استخدام الحشيش تحت إشراف الدولة، مبرّرًا ذلك بواقعية نادرة: “الحرب على المخدرات هي حرب على الفقراء”.
سياساته خفّضت معدل الجريمة، ورفعت من حرية الأفراد، وكرّست ثقافة الدولة الراعية لا القامعة.
بين الزهد الحقيقي ورفاهية القصور المصطنعة
في عالمٍ يتبارى زعماؤه على بناء قصور خرافية واستعراض الثروات، من قصر أردوغان ذي الـ1001 غرفة إلى مصاعد بوتين المطلية بالذهب، تبدو “فولكسفاغن” موخيكا الطينية كصرخة في وجه الزيف. قال: “الترف هو عبء على ظهر الشعب”، ورأى في الرفاهية الفاحشة امتدادًا للملكية المطلقة التي لفظها التاريخ.
موخيكا يرحل… ووصيته: لا تنتظروا الآخرة، ابنوا الجنة هنا
برحيله عن عمر ناهز 90 عامًا، بعد معاناة مع مرض السرطان، طوى موخيكا صفحة رجلٍ عاش كما آمن، ولم يُغوَ بسلطة ولا مال. قال قبل وفاته: “لا توجد جنة بعد الموت، لكن يمكننا أن نصنعها على الأرض إن اخترنا التواضع والعدل.”
وصيته للعالم: لا تدَعوا البساطة تدهشكم، بل دَعوا الترف يحرجكم.

