وثقت منظمة «مراقبة حقوق الإنسان» الدولية (HRW) في تقريرها السنوي لعام 2025 انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في تركيا، بما في ذلك استمرار القمع الممنهج ضد الأفراد المرتبطين بحركة الخدمة خلال عام 2024، في تقرير قدمت فيه أيضًا لمحة شاملة عن أوضاع حقوق الإنسان في أكثر من 100 دولة
القمع المستمر ضد حركة كولن
أشار التقرير إلى الانتهاكات المنهجية ضد الأفراد المشتبه بارتباطهم بحركة الخدمة، التي تستوحي فكر فتح الله كولن، الذي توفي في المنفى في أكتوبر 2024، وذلك بدعوى تدبير محاولة انقلاب في 15 يوليو 2016، مشيرًا إلى أن هذه الانتهاكات لا تزال مستمرة إلى اليوم.
الانتهاكات القضائية وقرارات المحكمة الأوروبية
انتقد تقرير هيومن رايتس ووتش ما وصفه بالسجن المطول والتعسفي، بالإضافة إلى غياب سبل الانتصاف الفعالة للمتضررين من الفصل الجماعي من الوظائف العامة، مسلطا الضوء على فشل تركيا في تنفيذ حكم ملزم صادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) في قضية المعلم السابق يوكسل يالتشينكايا، الذي أُدين بناءً على صلته بحركة الخدمة، لعضويته في نقابة عمالية وتحويلات مالية واستخدامه تطبيق “بايلوك”. ورغم أن المحكمة الأوروبية حكمت بأن الإدانة خالفت مبدأ الشرعية وحقوق المحاكمة العادلة وحرية الانتماء، إلا أن المحاكم التركية أصدرت حكمًا جديدًا بإدانته في سبتمبر 2024، علمًا أن حكم المحكمة الأوروبية المذكور ينطبق على معظم المتهمين بنفس التهمة.
خلفية الاتهامات ضد الحركة
بدأ الرئيس رجب طيب أردوغان يستهدف أتباع حركة الخدمة التي تستوحي فكر فتح الله كولن الراحل عقب تحقيقات الفساد في ديسمبر 2013، التي تورط فيها ثلاثة وزراء وأبناؤهم وأفراد من عائلة أردوغان، لكن الأخير وصف تلك التحقيقات بأنها مؤامرة قضائية من قِبل الحركة للإطاحة بحكومته، واتجه منذ ذلك الحين إلى تصنيفها كمنظمة إرهابية “إعلاميا”، ثم استصدر في 2016 قرارا “رسميا” لوصفها بالإرهابية، حيث اتهمها هذه المرة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة.
غير أن الحركة نفت كل هذه الاتهامات ووصفت الأحداث الفوضوية في ليلة الانقلاب بـ”الحرب النفسية” و”عمليات الراية المُزيفة” (false flag) يقف وراءها أردوغان نفسه ليتمكن من خلق أرضية لاتهاماته الجاهزة، ووصم الحركة بالإرهابية، وبالتالي تصفية الجنرالات المعارضين لمشاريعه العسكرية في سوريا وعموم العالم العربي والإسلامي، بتهمة الانتماء إلى هذه المنظمة الإرهابية المزعومة.
يذكر أن مصطلح “الراية المزيفة” يُستخدم لوصف عمليات سرية تُنفذها جهة معينة بحيث يتم إخفاء الهوية الحقيقية للمنفذين وتوجيه التهمة لمجموعة أو دولة أخرى، بهدف خلق انطباع بأن الطرف الذي تم اتهامه زورًا هو من قام بالعمل، وذلك لتحقيق أهداف عسكرية أو سياسية أو استخباراتية. تُستخدم هذه الاستراتيجية في الغالب للتأثير على الرأي العام أو لتبرير أفعال وعمليات معينة لا يسمح لها الدستور والقوانين ولا يسوغها الجمهور في العادة.
وكان أردوغان قال صراحة عقب إعلانه حالة الطوارئ في البلاد بعد أسبوع من إحباط ما سمي بمحاولة الانقلاب الفاشلة بدعوى التصدي لـ”الانقلابيين”: “لقد حصلنا في ظل حالة الطوارئ على القدرة والإمكان من أجل تنفيذ كثير من الإجراءات التي لا يمكن أن نجريها في الظروف والأوقات العادية”، على حد قوله.
الإجراءات التي أعقبت الانقلاب
أعلنت الحكومة حالة الطوارئ بعد محاولة الانقلاب، وأصدرت مراسيم طارئة أدت وفقًا لوزارة العدل التركية إلى فصل أكثر من 130,000 موظف حكومي، بالإضافة إلى 24,706 من أفراد القوات المسلحة، إلى جانب عشرات الآلاف من المدنيين، بزعم ارتباطهم بـ”منظمات إرهابية”، علمًا أن هذه المراسيم لم تخضع لأي رقابة قضائية أو برلمانية.
وخلال السنوات الأخيرة، خضع أكثر من 705,172 شخصًا، الأغلبية الساحقة منهم مدنيون، لتحقيقات بتهم تتعلق بالإرهاب أو محاولة الانقلاب بسبب علاقتهم المزعومة بالحركة. وبلغ عدد المعتقلين حاليا في قضايا مرتبطة بالحركة حوالي 13,251 شخصًا، بين محتجزين على ذمة المحاكمة أو مدانين بتهم الإرهاب.
بين يونيو 2023 ويونيو 2024 فقط، نفذت السلطات التركية 5,543 عملية أمنية، أسفرت عن اعتقال 1,595 شخصًا على صلة بالحركة، علمًا أن هذه الأرقام تتغير بشكل مستمر نظرا لاستمرار العمليات، حيث أفاد مركز ستوكهولم للحرية أن السلطات التركية اعتقلت خلال الأسبوع الماضي 200 شخص بسبب صلاتهم المزعومة بالحركة.
بالإضافة إلى أعداد المعتقلين، هناك أكثر من 100 حالة وفاة مشبوهة، زعمت السلطات أنها انتحار، كما اضطر العديد من أتباع الحركة إلى الفرار من تركيا هربًا من حملات القمع المستمرة يوميا، وتعرض بعضهم لحالات مأساوية، بينها الوفاة بسبب الغرق في مياه النهر أثناء العبور إلى الجانب اليوناني تمهيدا للوصول إلى مكان آمن في إحدى دول العالم.
انتهاكات أخرى لحقوق الإنسان
لم تقتصر الانتهاكات على استهداف حركة كولن فقط، حيث وثقت هيومن رايتس ووتش مجموعة من الانتهاكات الأخرى:
- الصحافة وحرية التعبير:
رصدت هيومن رايتس ووتش وجود 21 صحفيًا وعاملًا في مجال الإعلام إما قيد الحبس الاحتياطي أو يقضون عقوبات بالسجن بموجب قانون مكافحة الإرهاب، مشيرًا إلى تعرض الصحفيين الأكراد لمحاكمات متزايدة، حيث أُدين 8 صحفيين في يوليو 2024 بتهم الإرهاب.
كما كشف التقرير عن حجب مواقع إلكترونية ومنصات تواصل اجتماعي بشكل منتظم، بما في ذلك حجب تطبيق إنستغرام لمدة 8 أيام في أغسطس 2024، بالإضافة إلى حجب الوصول إلى مئات الحسابات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.
- نشاط الأكراد والمعارضة:
ذكر التقرير حظر السلطات التركية تجمعات واحتجاجات واسعة النطاق، مؤكدًا أن آلاف النشطاء والسياسيين الأكراد ما زالوا محتجزين بتهم إرهابية تتعلق بأنشطة سياسية غير عنيفة.
- حقوق اللاجئين والمهاجرين:
التقرير شدد على تصاعد حوادث العنف العنصري ضد اللاجئين، خاصة السوريين، موثقًا عددا من حالات ترحيل غير قانونية.
- الحقوق الاجتماعية:
كذلك لفت التقرير إلى استمرار القيود المفروضة على حقوق مجتمع الميم، بما في ذلك حظر فعاليات مسيرة “الفخر” في إسطنبول للسنة العاشرة على التوالي.
دعوة للإصلاح
في الختام، أوصى التقرير بإجراء إصلاحات منهجية في تركيا لمعالجة الانتهاكات الموثقة، بما في ذلك ضمان استقلال القضاء، والالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، ووقف استهداف النشطاء والمعارضين السياسيين.