كشفت بيانات رسمية حديثة عن استمرار ظاهرة “هجرة العقول” من تركيا خلال عام 2024، حيث ظل معدل مغادرة خريجي الجامعات عند مستوى يقارب اثنين في المئة، مع تصدّر خريجي مجالات الهندسة وتقنيات المعلومات قائمة المهاجرين.
التقرير الصادر حديثاً حول “إحصاءات هجرة خريجي التعليم العالي في تركيا لعام 2024” أشار إلى أن أعلى نسب الهجرة سُجلت في تخصصات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بنسبة قاربت سبعة في المئة، تلتها تخصصات الهندسة والتصنيع والبناء، ثم العلوم الطبيعية والرياضيات والإحصاء.
وتُظهر الأرقام أن الذكور أكثر ميلاً للهجرة مقارنة بالإناث، إذ بلغت نسبتهم أكثر من ضعف نسبة النساء تقريباً، ما يعكس ميولاً متزايدة لدى الشباب الذكور نحو البحث عن فرص مهنية وعلمية خارج البلاد.
التخصصات الأكاديمية الأكثر نزيفاً: علوم الحياة والهندسة في المقدمة
عند تحليل الظاهرة على مستوى البرامج الدراسية، تبين أن خريجي تخصصات البيولوجيا الجزيئية والوراثة تصدروا المشهد بنسبة مرتفعة بلغت نحو خمسة عشر في المئة، تلاهم خريجو هندسة الإدارة والهندسة الكهربائية، وهي مجالات ترتبط عادة بالبحث العلمي المتقدم والابتكار الصناعي، ما يثير القلق بشأن فقدان تركيا لأبرز طاقاتها العلمية في قطاعات استراتيجية.
الفجوة بين الجامعات العامة والخاصة
أظهرت البيانات أن خريجي الجامعات الخاصة أكثر ميلاً للهجرة مقارنة بنظرائهم في الجامعات الحكومية. فبينما استقر معدل مغادرة خريجي الجامعات العامة عند مستويات محدودة، تجاوزت النسبة بين خريجي الجامعات الخاصة أربعة في المئة، مع ارتفاع لافت بين الطلاب الحاصلين على منح كاملة، حيث بلغت نسبتهم أكثر من ثمانية في المئة.
ويرى مراقبون أن هذا التفاوت يعكس ارتباطاً مباشراً بين نوعية التعليم ومستوى الانفتاح الأكاديمي من جهة، وفرص الاندماج في الجامعات العالمية أو الشركات متعددة الجنسيات من جهة أخرى.
لغة التعليم عامل حاسم في قرار الهجرة
من اللافت أن البرامج التي تعتمد اللغة الفرنسية في التدريس سجلت أعلى معدل للهجرة بين خريجيها، متقدمة على البرامج التي تدرّس بالإنجليزية والألمانية والروسية. ويُعزى ذلك إلى اتساع نطاق الشراكات الأكاديمية بين الجامعات الفرنسية والتركية، فضلاً عن رغبة الطلاب في الالتحاق بالمؤسسات الأوروبية الناطقة بالفرنسية بعد التخرج.
الوجهات المفضلة: الولايات المتحدة وأوروبا في الصدارة
تؤكد البيانات أن الولايات المتحدة وألمانيا تتصدران الوجهات المفضلة لخريجي الجامعات التركية، تليهما المملكة المتحدة وهولندا وكندا. وتُظهر هذه الوجهات تفضيلاً واضحاً للبلدان التي توفر بيئات بحثية متقدمة وفرص عمل مستقرة، إضافة إلى معايير حرية أكاديمية أوسع مقارنة بما هو قائم داخل تركيا.
الأسباب العميقة: من الأزمات الاقتصادية إلى التضييق الأكاديمي
لم تعد ظاهرة “نزيف العقول” محصورة في خريجي الجامعات فحسب، بل امتدت إلى طلاب المدارس الثانوية المرموقة مثل “غالاطا سراي” و”إسطنبول الثانوية الألمانية”، الذين يختار عدد متزايد منهم الالتحاق بجامعات أجنبية.
ويرجع المراقبون ذلك إلى تراكم عوامل اقتصادية وسياسية متشابكة، أبرزها تفاقم البطالة بين الشباب، وتراجع القوة الشرائية، وغياب الأفق الأكاديمي، إضافة إلى ما يعتبره كثيرون تضييقاً سياسياً متزايداً على حرية الفكر والبحث منذ محاولة الانقلاب في يوليو 2016.
فبعد تلك المحاولة، تعرضت الجامعات التركية لحملة تطهير واسعة شملت فصل آلاف الأكاديميين، وإلغاء جوازات سفرهم، وإغلاق مؤسسات بحثية ومنظمات مدنية، مما أدى إلى شعور متزايد بانعدام الأمان المهني والفكري داخل الوسط الأكاديمي.
تحليل سياقي: هجرة العقول كمرآة لأزمة بنيوية
يرى باحثون أن استمرار نزيف الكفاءات التركية يمثل انعكاساً مباشراً لأزمة بنيوية عميقة تتجاوز الاقتصاد إلى بنية الحكم والتعليم معاً. فمع تصاعد النزعة الدينية القومية داخل النظام السياسي وتراجع الحريات الأكاديمية، يشعر جيل كامل من الشباب بأن بلده لم يعد قادراً على احتضان طموحاته العلمية.
وتشير آخر الدراسات إلى أن العوامل المحركة للهجرة باتت تتداخل بين الشعور بالإقصاء السياسي، والبحث عن بيئة علمية أكثر استقلالية، والهروب من واقع اقتصادي يحدّ من الإبداع والابتكار.

